كُتب عن محمود درويش الكثير وتناوله النُقّاد والباحثون بغزارة حتّى الإشباع وكأنّه شاعر فلسطين الأوحد، وحين قرأت، في حينه، مقالات للدكتور نبيل طنّوس حول أشعار درويش وجدتها تحمل طابعًا آخر. أهداني نسخة من كتابه "اقتفاء أثر الفراشة-دراسات في شعر محمود درويش" (يحوي الكتاب 196 صفحة، إصدار ذاتيّ خاص، د. نبيل طنّوس كاتب وباحث ومترجم. من قرية المغار الجليليّة، له 14 كتابا لتدريس اللغة العبريّة، سبعة كتب في الشعر العربي المترجم إلى العبريّة ونشر حوالي 50 بحثًا في النقد الأدبي والتربية).
"اعرفوني كما أريد! وسأختار ما أريد وأُترجمه بنفسي!" هذا ما قاله د. نبيل في حواريّة حول الترجمة وأصولها، الترجمة عبارة عن فن وضرورة كونيّة من أجل التعرّف على الآخر وتفهّمه عبر ثقافته، والحديث عن الترجمة الأمينة، بعكس الترجمة الحرفيّة و/أو الحرة، التي تسعى للحفاظ على روح المتّرجَم ورونقه وليس الترجمة "الغوغليّة" الحرفيّة الخشبيّة أو المعدنيّة التي تُفقِد النص جماليتّه وتُشوّهه.
"إن للترجمة دورًا هامًّا جدًّا وضروريًّا في عملية التثاقف بين الشعوب المختلفة، وهي بمثابة وسيلة للتفاعل مع الآخر الذي يتكلّم لغة أخرى... هي وسيلة للتواصل ولبناء علاقات إنسانيّة سليمة، وأعتبرها جسرًا يربط بين الشعوب والفئات ويقرّب بينها، فهي تؤدّي إلى التفاعل بين الثقافات المختلفة" هذا ما كتبه المؤلّف في مقالة له بعنوان "دليل المترجم من طاولتي"، ومن خلال ترجماته لأشعار درويش إلى العبريّة قرّر أن يكتب عنها بصورة مُغايرة بعيدة من النمطيّة الكلاسيكيّة.
اختيار عُنوان لكتاب مهمةٌ صعبة، مع الزمن أصبح عتَبةً نصّية وعملًا موازيًا لمتن الكتاب؛ يقول المؤلّف في الإهداء: "لذكرى زوجتي نهاد، وأهديه لأولادي وأحفادي، ولجميع محبّي محمود درويش. أثر الفراشة لا يُرى... أثر الفراشة لا يزولُ"، وكأنّي به يصرّح أنّ أثر زوجته باقٍ لا يزول رُغم الغياب، وكذلك أثر درويش وإرثه الشعريّ والثقافيّ باقٍ، يعكس فلسفة نظريّة الكاؤوس ((butterfly effct وأنّه فعلًا رفيف جناحي فراشة من شأنه، في ظروف مواتية، أن يتحوّل إلى إعصار/تورنادو، وقمّة تحوّل درويش من المباشرة إلى الرمزيّة الفلسفيّة في "التحريض" وكأنّي به يقول: لا تيأسوا!!!
يشمل المؤلَّف على ثمانية مقالات؛ "معموديّة الحجر في شعر محمود درويش"، "الصورة الشعريّة عند درويش، على هذه الأرض ما يستحق الحياة - نموذجًا"، "حجر كنعاني في البحر الميّت بين الواقع والرؤيا"، "توظيف الأسطورة والنص التراثيّ عند درويش، أيام الحب السبعة - نموذجًا"، "قراءة في لَو وُلِدتَ"، "تطور مفهوم الهُويّة في شعر محمود درويش"، "حين تجدُ لبيتِكَ بابًا، يكون مفتاحه في القصيدة الضائعة" (قراءة لقصيدة "يأس الليلك" الضائعة من دواوين درويش بمشاركة د. راوية جرجورة بربارة)، "إضاءات عامّة حول قصيدة "رباعيّات" في "أرى ما أُريد".
ترجمة الشعر من أصعب الترجمات لما يحويه من أحاسيس ومشاعر وذوق ولهذا نجد أن أفضل الشعر المترجَم قام بترجمته شعراء ذوّاقون للشعر وموسيقاه، وكما قال أكتافيو باث (الشاعر والأديب المكسيكيّ الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1990):"منذ البدء يُعتبر الشعر هو الأقلّ ملاءمة للترجمة، وما يُثير الدهشة أن أفضل الشعر المترجَم قام بترجمته شعراء كبار". ترجمات ومقالات د. نبيل الدرويشيّة تتحدّى النقّاد "التقليديّين" لكونه شاعر لم يأتي من عالم الأدب العربيّ المتقوقِع بنقده النمطيّ، يبدو أنّه لكلّ مقالة قصّة خلفها حفّزته على كتابتها ولم يقرّر كتابة "بحث" نقديّ حول درويش وأشعاره. وظّف درويش الرموز اليهوديّةَ/المسيحيّة/الإسلاميّة (وأطلق عليها الباحث أحمد أشقر "اليهمَسلاميّة") بغزارة في أشعاره كما ذكر د. نبيل، كما ووظّف درويش الأسطورة والنص التراثي بعفويّة مهضومة ومدروسة دون إقحام، فنجده ملمًّا بها ومثقفًا. تناول موتيف الحجر في عدّة قصائد لدرويش وظاهرة تحوّل الحجر من عامل يرمز إلى القسوة والجماد والصمود إلى عامل مُفعم بالأحاسيس ويرمز إلى الحنان، بعد غسل الحجر بالماء ممّا يؤدّي إلى صقله من جديد، فيتطرّق بثقافته الموسوعيّة إلى الماء في الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة وتأثيره على سيرورة التحوّل.
تناول كذلك تطوّر مفهوم الهويّة، تأثير الزمان والمكان على الهويّة والانتماء في أشعار درويش، على فتراته المختلفة، ووصل إلى نتيجة خلاصتها أنّ للمكان تأثير طاغي على أشعاره.
تناول توظيف درويش للصورة الشعريّة فوجده فنّانًا يرسم بالكلمات؛ (ص.31) يستعمل الاستعارات، التشبيه، التشخيص، التجسيد، البيان وغيرها فيصوّره بالفنّان المبدع.
تحدّى الباحثين اليهود في تصورهم لدرويش المُهادن، من أمثال بروفيسور سنير وغيره، أكّد على حنين وشوق درويش لفلسطينه التي تستحقّ أن نحيا لأجلها:
" على هذِهِ الأرضِ ما يستحقُّ الحياةُ:
على هذه الأرضِ سيِّدةُ الأرضِ،
أُمُّ البداياتِ أُمُّ النهايات
كانت تُسمَّى فلسطين.
صارتْ تُسمَّى فلسطين.
سيِّدَتي: أستحقُّ، لأنَّكِ سيِّدَتي، أستحِقُّ الحياةْ".
تناول المؤلِّف تطوّر شاعريّة درويش منذ البدايات وبداية وعيه بقضيّة وطنه وانتمائه له تحت نير الاحتلال، حين كان يكتب الشعر المنبريّ الشعاراتيّ المباشر، نزوحه للمنفى وتحوّله لشاعر عروبيّ، لجوئه لتوظيف الدين والأسطورة والتاريخ، ومن ثم شاعر الحضارة والإنسانيّة، تطوّره الإبداعيّ، تحوّله المتغيّر والبعيد عن التكلّس والتقوقع، مضمونًا وأسلوبًا، تجديده في كلّ الأطر.
قام المؤلّف بقراءة أشعار درويش وتحليلها بطريقة مغايرة موضّحًا رموزها ودلالاتها، عمقها وأبعادها ليضيف الكثير للمتلقّي من ثقافته العريضة ونظرته الأفقيّة البانوراميّة، ليفكّ رموزها المُشَفّرة لتصل بسيطة بعمقها وعميقة بمعانيها ومفاهيمها.
سلّط د. نبيل الضوء على قصيدة يأس الليلك، تلك القصيدة التي لم تُنشر في دواوين الشاعر، أرفق النصّ الكامل لتلك القصيدة "الضائعة" التي لم يتناولها النقّد والباحثون من قبل، ليحلّلها ويقرأها بطريقته، وعلى كيفه، مثيرًا للكثير من التساؤلات، مركّزًا على التضاديّة فيها، يأس درويش من الوضع القائم التي آلت إليه القضيّة الفلسطينيّة بعد ضياع الوطن، النزوح والتشرّد، وبين الأمل الذي يحثّ على الحياة من أجل مستقبل أفضل لأجيال تستحقّ الحياة، رغم من يحاول سحقها ليل نهار، فالتفاؤل بغدٍ أفضل هو الأمل.
استفاض د. نبيل بتحليلاته البنّاءة العميقة مشيرًا إلى مصادره في كلّ واحد من فصول الكتاب، وسعة اطّلاعه على ما كُتب حول درويش وأشعاره؛ متطرّقًا لعدّة أبحاث سبقته، ومنها لعادل الأسطة، حسين حمزة، صبحي حديدي، عايدة فحماوي وتد، جورج جحا، إلياس خوري وغيرهم.
نعم، وجدت في الكتاب الكثير، وليس مجرّد كتاب آخر حول درويش، بعيدًا عن القولبة النمطيّة، مُطعَّم بثقافة كاتبه ومعرفته، بأسلوبه البسيط والبعيد عن الفذلكات اللغويّة وشدّ العضلات، ممّا لا يقلّل من عمقه وشموليّته.
ملاحظة لا بدّ منها؛ وجدت تكرارًا لفكرة معيّنة في أكثر من مقالة أحيانًا، ولكنّه مهضومًا إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّها لم تُكتب في الوقت ذاته بل كُتِبت ونُشِرت على فترات متباعدة.
قراءتي للكتاب أعطت للوحةٍ تشكيليّةٍّ خطّيةٍ على حائط مكتبي، هديّة من صديقي الفنّان التشكيليّ ظافر شوربجي "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة" معنًى آخر!
اقتفاء أثر الفراشة!!
بقلم : حسن عبادي ... 26.12.2019