أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
القاص السوداني أبو زيد عبدالله الإمام في “الصفقة” أبعد من النسيان نحو استبصار الفاجعة!!
بقلم : سعيد سلطان الهاشمي ... 10.05.2020

كيف للسرد أن يستبصر الفاجعة؟
قارئ “الصفقة”، للكاتب وأستاذ الموسيقى أبو زيد عبدالله الإمام، لن يحتاج إلى جهد ليدرك أن السلطة الممتهنة لكرامة الإنسان إلى زوال. مهما أبدع سدنة الاستبداد في طاعتها، لأن بذور بوارها تتبرعم بمجرد تغييبها للعدل.
المجموعة القصصية لم تكتب كـ”كلام ساكت” حسب القاموس السوداني البليغ، ولا اختلاقاً لعوالم لا تسكن إلا في الكوابيس، ولا حتى تجريباً لأحد أشكال الجمال الفني. كُتبت، كما يبدو، كخلاص روحي، كمغالبة للنسيان لأولئك الذين انتزع الاستبداد من أحشائهم حب الحياة، لا لفرية اقترفوها إلا لاحتفائهم بالحياة.
أناس لم تسعهم الأيديولوجيا، أو عافتها نفوسهم لمحدودية صلاحيتها، فإذ بهم يتحولون، بسبب ذلك، إلى ضحايا عذاب لا قعر له، قضى بعضهم نحبه، من بُرحاء التنكيل وامتهان الكرامة. أما الذين عافهم الموت، فقد استفردت بهم ذكريات التعذيب المهين في اليقظة والمنام. كل ذلك كان في سودان ما قبل الثورة الشعبية السلمية، كانون الأول/ديسمبر 2018. النصوص الثلاثة، التي تكوّن المجموعة، كُتبت قبل هذا الحدث الفارق بسنوات، وظلت حبيسة الأدراج بحثاً عن ناشر لا يخشى غلق داره بسبب هذا النوع من الأدب. أدب يتنبأ بما سيؤول إليه حال سلطة مطلقة، سحقت الإنسان، نهبت ثرواته، وبددت أزمانه باسم الحق الإلهي الذي لا ينازعها فيه أحد.
عتبة المجموعة منقوش عليها كلمة للفيلسوف الفرنسي فولتير: “إن من يقول لك: أؤمن بما أؤمنْ به وإلا لعنك الله، لا يلبث أن يقولُ لك: أؤمن بما أؤمن به وإلاّ قتلتك!”، تمهيداً لرسم ميدان السرد المنتظر: إيمانان راسخان متنافران يوشكان أن يتصادما: إيمان بالسلطة الصنم، وإيمان بطل “الصفقة” بإنسانيته. “كلاهما لن يتراجع، فليتصادما إذن ولتقم القيامة”.
بطل “الصفقة” هو تاج السر، وعندما اقتيد في تلك الليلة “كان كياناً يتوثب حيّوية وتعاطفاً، منبسط النفّس والفكر، يتسع للآخر ويهتمّ به ويتوجه إليه. ها هم يعيدونه منطفئاً، منسحباً، منكمشاً كحلزون يلوذ بقوقعته في كل شيء”. كان قارئاً نهماً، تدهشه العبارة كدهشة طفل بلعبته الجديدة. تُلهبه المعلومة البكر، فيظل يرددها متحمساً، مأخوذاً، مبشراً بها، خاصة إذا كان يراها فتحاً جديداً للإنسانية، أو برهاناً يظاهر فلسفته. وكان يستدرك من دون أن تتركه حماسته: “ليس ثمة إجابة شافية تماماً؛ فإجابة التاريخ عن سؤال قديم تتبلور في سؤال جديد… كُتب علينا الكدّ الدائم في البحث الدائم”.
عاشق للموسيقى، متبحرٌ في أنهارها، كان دائم القول لزوجته: “الموسيقى تحررني من نفسي، تُذهلني عن نفسي. إنها تقويني؛ فبعد كل سهرة موسيقية، يغشاني صباح يفيض بالرؤى والاكتشافات”. شغف تاج السر بالأغنية الأمدرمانية، شغفه بالمدينة نفسها. كان يردد: “ما من شيء جمع أفئدة السودانيين على وجدان واحد مثلما فعلت أغنيات أم درمان؛ ففي (مدينة التراب) هذه تساكن وتمازج أناس انحدروا من أقاليم السودان كافة وانصهروا في أغنية!”. فضلاً عن ذلك، لم ينسَ تاج السر تأثره بالإرث الإنساني في الموسيقى؛ فكان متيّماً بفيفالدي وبيتهوفن ومندلسون. يستمع إلى موسيقاهم “غارقاً في استرخائه وهي تتسلل إلى شعاب روحه”.
هذه الصورة القلمية الأخاذة لشخصية تاج السر خبأ الكاتب الإخبار بها إلى الربع الأخير من الحكاية، فارداً خارطة العذاب الذي كابده (السِّر) ورفاقه في المعتقلات السرية طوال الأرباع الثلاثة الأولى. الصفقة تمثلت في مساومته ليكون مخبراً داخل إحدى النقابات الزراعية، ويشي بالأسماء والأفكار، ولأنه تعففّ، اُختطف، ورُمي في “المرحاض”. معتقلون منسيون، شباب غُفل، طاعنون في السن، صامتون عن تأليه الوثن المتعالي للنظام الحاكم، نقابيون يسعون في معيشة كريمة لعمال وأجراء وعتّالين، كل هؤلاء جمعهم المعتقل المجهول، تم اعتقالهم تحوطاً، فقط بمجرد الاشتباه فيهم، شُبَهٌ من قبيل: الثقافة، الكتابة، الشروع في الاعتراض، أو النية في الاعتراض!
كل يوم يتأكد الجلادون من إغلاق أعين ضحاياهم، “فلا شيء يستثير حنقهم مثل عين الضحية ترقبهم”. تبدأ الحفلة: أفواه تقذف فُحشاً يقصر عنه الوصف، زبانية يتفننون في إحداث الفداحة بدون مقدمات، فأسوأ من التنكيل جهل الضحية من أين يأتها التنكيل! آلات نحس كالإبر، الشواكيش، “الزرديّات”، المسامير، السياط، الحبال، الخوازيق، المناشير؛ تبدأ عملية المحو، محو الجسد، ومحو الذاكرة.
يستحضر الكاتب، من خلال دفتر يوميات تاج السر مقولات لمفكرين وشعراء، كعنترة وأبو تمام وغوته ونيتشه وهوغو. هذا الدفتر تحوّل إلى دليل إدانة في يدّ سيادة العقيد عفّان، آمر جوقة العذاب، يحاسبه على مقتبساته! كيف تتعلّق بنيتشه وبمقولته “الدولة وحش جريء في الكذب والسرقة، كلّ ما تصل إليه تنهبه، وسائر ما تقوله تكذب فيه”، كيف تتجرأ على اقتباس كهذا؟ إذن أنت تتبنى هذه الأفكار؟ في نيتك استعداء الدولة؟ ومن الدولة غير نموذج عفّان؟ “أنا إنسان بلا أيديولوجيا – يقول عفّان- لكنني أستميتُ في الحفاظ على دولة آمنة… وإذا كان أمن النظام يعني بالضرورة أمن الدولة، فأنا من حماة النظام أياً كانت منطلقاته ووجهته. أنا رجل أمن محترف يجتهد ليحذق حرفته. ولا أكتمك أنني وجدتُ في رجال العهد الجديد ما لم أجده في رجال العهود السابقة”.
يحيك أبو زيد الإمام منسوجته الفنية بلغة منسابة كمقطوعة موسيقية عذبة، ولعل مهنته ومجال اختصاصه مكّناه من انتخاب الإيقاع المناسب لتقفّي المشاعر المتضادّة دونما خدش أو تشتيت. هذا ما يجده القارئ في القصة القصيرة الثانية “أربع صور من زمان المسغبة” حيث الهوامش التي “تأذت بعد الانقلاب، حين داهمت جحافل الأمس حاضر الناس ومستقبلهم”. والقصة الأخيرة “انتماء”، والتي تحكي مآل دونجوان عابث استحال درويشا جوّالاً علّمته مومس “أن الحب نبلٌ” وأن الذي لا ينتمي إلى مبدأ يُضفي على حياته البائسة شيئاً من أمل، لا يستحق صفة الآدمي، “من الإحساس بالانتماء تنبثق الفضائل ويتعلّم الإنسان معنى أن يُضحي وأن يكون مسؤولاً”.
“تنحاز الفاجعة إلى النسيان؛ النسيان الذي لا ذاكرة له، التراجع الجامد لما لا يُقتفى” حسب موريس بلانشو، لكن “معزوفة” أبو زيد الإمام ذهبت أبعد من النسيان، ذهبت إلى استبصار الفاجعة.
*أبو زيد عبدالله الإمام: “الصفقة“
مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي، أم درمان

**المصدر : القدس العربي
1