( سنة على رحيله)
لا أصدق أن سنة قد مرّت على رحيل صديق ورفيق العمر علي إسحق، ولذا دهشت عندما كتبت إلي ابنته داليا مذكّرة..علّي أكتب عنه شيئا في هذه الذكرى.
رحيل علي إسحق فجعني، وعليه بكيت بحرقة. بكيته كما لو أنني أبكي جيلنا، وأحلامنا، وخذلاننا، وإضاعة( بعضنا) للطريق وهم يسعون للشهرة والوجاهة والمال من دم الشهداء والجرحى، ومن دموع الأمهات والأيتام، والأرامل..فكانوا عبئا على شعبنا وقضيتنا..ولم يكونوا رفاق طريق صادقين.
ولأنني لا أستطيع كتابة سيرة جيل، فها أناذا أكتب شيئا عن صديق ورفيق عمر..وكتابتي مختزلة..وآمل أن تأخذ ما تستحق في روايتي القادمة والتي أكمل بها روايتيّ( وداعا يا ذكرين) و( الحب ..وليالي البوم)..والتي سيحضر فيها علي كشخصية رئيسة في زمن زاخر بالأحداث، والأحلام والحماسة..والأمل.
أبدأ من هناك:
في الصف العاشر..في اليوم الأول من العام الدراسي، في مدرسة ( دار الفكر)، جلس فتى في المقعد بجوار جدار غرفة الدرس، وبجواره جلس فتى آخر..هو أنا.
بدأ ذلك الفتى في تقليب صفحات دفتره، بينما اختلس الفتى الآخر النظر..فلفتت انتباهه كلمة ( قصة)..وكتابة بخط اليد.
قرب رأسه من رأس زميله بفضول، وسأله:
قصة!..من كتبها؟
أنا...
-هل تكتب القصص؟
_ نعم...
وأنا اكتب القصص القصيرة.
في ذلك اليوم البعيد البعيد بدأت صداقة نمت بيني وبين علي إسحق، وامتدت حوالي ستين سنة..وحتى ما بعد رحيله، فالصداقة لا تنتهي بالموت، بل لعلها تنمو وتزداد عمقا بعد الموت.
مخيم اليرموك شارعان رئيسيان، هما شارع اليرموك وشارع فلسطين، ويربط بينهما شارع ( لوبية)، وفي ذلك الشارع بيت تطل نافذة إحدى غرفتيه على الشارع..إنه بيت علي إسحق.
لفت انتباهي أنه يعيش مع أمه وحدهما، فسألته:
- أين والدك؟
عرفت منه بقليل من الكلام أن والده اختفى داخل سجون الاحتلال..وأنه كان يعمل في ( استطلاع) الجيش العربي السوري..وأن أخباره اختفت تماما فالاحتلال لم يعلن شيئا عنه.
بتنا أخوة، فعلي لا أخوة له، وأنا لا أخوة ولا أخوات لي..وكنت أعيش وحدي في غرفة متواضعة في( جوبر).
عرفت أن عليا من قرية شركسية، وأنه غادر مع والدته بعد اختفاء والده، وانتهى بهم المقام في مخيم اليرموك.
أحيانا يزورني في ( جوبر)..وأحيانا أزوره في مخيم اليرموك، ومعا نقضي وقتا طويلا ونحن نتحدث عن الكتابة، وعن الكتب التي نقرأها..ونتبادل تلك الكتب.
بدأت صداقتنا ونمت أيام وحدة مصر وسورية، والنهوض القومي بقيادة جمال عبد الناصر، ونحن ككثير من أبناء جيلنا كنا ناصريين متحمسين لتحقيق الوحدة العربية وتحرير فلسطين.
لكن الانفصال وقع!..وقع على رؤوسنا وعقولنا وأرواحنا..وشعرنا بأن انتظار تحقق الوحدة العربية لتحرير فلسطين قد بات بعيد المنال..واأسفاه.
ككثيرين من أبناء جيلنا بدأنا بطرح الأسئلة محاولين تلمس الطريق بعد هدم وحدة مصر وسورية، وكان الجواب: شعب فلسطين يجب أن يعتمد على نفسه.
وفي تلك الغرفة التي يطل شباكها على شارع ( لوبية) بدأت اجتماعات أربعة فتيان،هم: علي إسحق وصديقه محمد جابر، وإبراهيم سلامة ..وأنا..وكنا نحضر من جوبر، فعلي نظم محمد جابر وأنا أقنعت إبراهيم الذي لا تنقصه الحماسة.
آنذاك بدأنا نسمع عن نشاطات لجهات فلسطينية بدأت حراكها بعد الانفصال...
ثم: دعاني زميل شاب في جوبر للانضمام لفصيل يعمل لتحرير فلسطين، ويضم كثيرين، فلا داعي لتبديد الجهود. كان ذلك هو الصديق أمين كايد.
بعد سنوات عرفت أن عليا وصديقه محمد قد انضما لذلك الفصيل، وهو( جبهة التحرير الفلسطينية)..التي انضممت لها أنا وصديقي إبراهيم سلامة وفي نفس ( الزمرة) التي تحمل الرقم 66 – الخلية – وانخرطنا في مشاريع التدريب..وكان ذلك في العام 1962 كما هو مدوّن في كتابات عن تلك المرحلة.
أنا وعلي أخفينا واحدنا عن الآخر انضمامنا لجبهة التحرير الفلسطينية، التزاما بأحد مبادئ ذلك الفصيل الذي شدد على مبدأ (السريّة والكتمان).
لم ينقطع واحدنا عن زيارة الآخر، وإلى تلك الغرفة اصطحبت أصدقائي الشعراء: فواز عيد، عبد الكريم كاصد، فايز خضور..وقد كانوا شعراء لامعين في جامعة دمشق، بينما كنا نحن في مرحلة ( البكالوريا) نتهيأ للدراسة الجامعية.
كتب علي آنذك قصة طريفة اشتهرت – لم ينشرها – بعنوان: كونشرتو الضياء والقمر، وقرأها لي..وللأصدقاء الشعراء الذين عرفتهم به وباتوا أصدقاء له..فأدهشتهم، وباتوا يتندرون ببعض حواراتها الطريفة.
عام 1965 عدت مع والدي – كان لاجئا سياسيا في سورية منذ عام 1957 – إلى أريحا، تحديدا مخيم النويعمة، وتبادلنا، علي وأنا، رسائل كثيرة ..من المؤسف أنني فقدتها بسبب هزيمة حزيران 67.
ذات يوم كنت في زيارة أقارب لي في عمان..فإذا بأحد أقربائي يخبرني بوجود شخص زار مخيم النويعمة ..اسمه علي إسحق..وأنه ينتظرني.
تحركت فورا..وتوجهت إلى أريحا، وعندما توقفت الحافلة وهبطت منها..سمعت صوتا ينادي: رشاد...
كان ذاك صوت علي الجالس في مقهى السنترال المغطى بالقفصب..ثم مضينا إلى مخيم النويعمة. لم أسأله عن ( سر) قدومه من سورية إلى أريحا. ( علمت فيما بعد أن عليا حضر بمهمة التعرف على الضفة ومدنها وقراها وطرقها).
أقام عندي يومين ثم غادر – كما أخبرني إلى منطقة جنين وطولكرم- ولا أدري إلى أين أيضا..وبعد زمن التقينا من جديد في تلك الغرفة..في شارع لوبية.
وقعت نكبة حزيران ومكنت العدو من احتلال ما تبقى من فلسطين، وكل سيناء، وهضبة الجولان..وبهذا دفع جيلنا ثمن هزائم مرّة دهمته وفجعته..فاندفع حاملا البنادق ( الفدائية) علّه يُدفّع الاحتلال ثمنا لم يتوقعه، ويبرهن على أن هزيمة الجيوش( الجديدة) – بعد نكبة ال48 – التي أضافت نكبة للنكبة أشد مرارة..ليست نهاية المطاف، ولا هي الكلمة الأخير في الصراع الوجودي مع العدو الصهيوني المدعوم أمريكيا وغربيا.
..وكان علي إسحق أحد المندفعين للقتال..وتلك مسيرة غنية شجاعة مُشرّفة له ولجيلنا، كم كنت أود، لو أنه دونها كشهادة..لكنه للأسف لم يفعل.( لم يكن معنيا بالاستعراض والتشوّف).
زارني في العاصمة الأردنية عمان، في مخيم ( النصر)، بعد الهزيمة المرّة، وكنت أقيم في خيمة..هي الخيمة الوحيدة، بينما ( المخيم) مبني من وحدات إسمنتيه أعدت لاستقبال اللاجئين الذين كانوا يقيمون في ( تجمع) عشوائي في منطقة ( الجوفة) ، لكن اللاجئين الجدد اكتشفوا تلك الوحدات الفارغة فانقضوا عليها ووضعوا أيديهم عليها.
من تلك الخيمة انطلقت داوريات إلى الضفة الفلسطينية..وعمق فلسطين، ضمت بعض أصدقائنا : إبراهيم سلامة ( أبوعرب)، محمد جابر..وقد أسهما في عمليات شجاعة في عمق فلسطين المحتلة 48، أمّا علي فتم القبض عليه قبل بلوغ الجهة التي كانت ستساعده على عبور نهر الأردن، وأعيد إلى عمان..ومن ثم إلى دمشق.
كتب علي اسحق قصصا مؤثرة بارعة لم يجمعها في كتاب إلاّ بعد إلحاح مني شخصيا، وقد وضع عنوانا لها (ملاحظات متفرج)..فعاتبته متسائلاً: وهل أنت متفرج يا علي؟! أجابني: خشيت أن يفسر العنوان الأول( بندقية للبيع) تفسيرا سيئا. كتبت عن تلك المجموعة في مجلة ( المعرفة) السورية مقالة مطولة..ولكن عليا أدار ظهره لكتابة القصص أثناء انهماكه في المقاومة التي استحوذت على كل وقته، واستغرقت حياته.
علي إسحق كريم، فما في جيبه ليس له، وهو معطاء سخي..وهذا ما استغله فيه بعض( الانتهازيين) الذين تغطوا به، وانتفعوا بسمعته الطيبة فترة ليس بالقصيرة...
لكن علي اسحق، ابن الشهيد، الأصيل..لم يضل الطريق مع الضالين..فاستأنف السير المُكلف على طريق فلسطين مع شرفاء دفعوا ثمن خياراتهم، وتأبوا على النفاق على حساب القضية، وبقليل من الكلام – وهو مقل في الكلام غالبا – رفع موقفه عاليا باسم من رفضوا الانحراف ومسيرة التيه..وبقيت فلسطين العربية الكاملة الواحدة هاجسه هو الفدائي ابن الفدائي..الوفي لمخيم اليرموك، ولدم رفاق وأخوة ضحوا بحياتهم من أجل تحرير فلسطين..فلا صلح ولا مفاوضات ولا اعتراف، والصراع صراع وجود لا صراع حدود..وهي المبادئ التي تلقنّاها..ونشأنا عليها، وآمنا بها بثبات..هذه المبادئ والمحددات من القائد الذي آمنا بخطه: جمال عبد الناصر. لم يتغيّر علي إسحق بعضوية اللجنة لتنفيذية. بقي متواضعا وفقيرا ..وغنيا بحب فلسطين، والإيمان بعروبة فلسطين – هو الشركسي- ورحل متيقنا من تحرير فلسطين من نهرها لبحرها.
لروحك الرحمة يا صديقي ورفيقي
بدأت حياتك بما يليق..واختتمها بما يليق..أمّا الموت فنفوسنا كلنا ذائقته مهما امتد بنا العمر.
علي إسحق ..صداقة ورفقة عُمر!!
بقلم : رشاد أبوشاور ... 29.06.2020