أحدث الأخبار
الخميس 21 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الكتابة من جرح جماعي… الكتابة بألف عين!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 04.01.2024

الأدب التاريخ؟
* لا أظن أن الأدب يتحدّى التاريخ، إنه يكمله ويصحّحه، وفي ظنّي أنه بات يُعلِّمه اليوم، لأن التاريخ عليه أن يخشى الأدب، إذ لم يعد التاريخ هو صاحب الكلمة النهائية، فهنا شاهد آخر عليه، أو يمكن القول مراقب له. إن الأدب معنيّ بالتفصيلي، اليومي، الذي لا تراه نشرات الأخبار، ولا ترحّب بكثير منه شبكات التواصل الاجتماعي التي تريد أن تمحو الاثنين معًا، التاريخ والأدب.
لا أظن أن الأدب يريد أن يكون تاريخًا مغايرًا، إنه أدب في حدّ ذاته، ويكفيه هذا. التاريخ جزء منه، وكذلك العلوم؛ علم النفس، والآثار، وعلم الاجتماع… إنه الإنسان في اللحظة التي يختلط في داخل هذا الإنسان ويجتمع كل شيء؛ ما يراه التاريخ وما لا يمكن أن يراه وينتبه إليه. الأدب هو السيرة الداخلية للعالم، لكنه رغم ذلك مضطرّ أن يكون البديل أحيانًا للتاريخ لأن التاريخ مرهون للقوة، فقد عشنا حياتنا قبل التطوّر التكنولوجي في مجالات التواصل، والحكومات تملك الفضائيات ومحطات التلفزيون والإذاعات والصحف والكتب والبرلمانات والبرلمانيين، والشرطة والجيش والمخابرات، ولم يكن لنا غير الأدب؛ رواية يكتبها روائي شجاع، أو قصيدة رائعة، أو قصة قصيرة. كانت هذه بالنسبة لنا هي الأمل والقوة. الآن أظن أننا أصبحنا أقوى بامتلاكنا الأدب القوي، عربيًا وفلسطينيًا. لكن للأسف، لا يعني ذلك أننا ربحنا الجولة، لأن الجولة نفسها لم تنته بعد في صراعنا مع كل قوة غاشمة أتقنت اللعب جيدًا: إنها باتت موجودة، أو مبثوثة داخل (المؤسسات الديمقراطية) وهراواتها ودكتاتورياتها الموزّعة بدهاء على كل مؤسسات المجتمع المدني، والكذب ما زال قادرًا على تشويه كل شيء، حتى ما يراه البشر.
الالتزام في الأدب؟
– أظن أن أشكال الالتزام قد تغيّرت، لكن معناه لم يزل حاضرًا وجوهريًّا، فالبشر ليسوا على استعداد بعد أن يستسلموا وأن يرفعوا الرايات البيضاء في أزمنة تبدو فيها كل قضاياهم معلّقة، ووجودهم على الأرض معلّقًا. الفاشية تتضاعف وتنتشر بعلانية لا تعرف الخجل، والبيئة تُدَمّر، والعالم الثالث يُسحق كل يوم، والمرحلة التي يعيشها لا تقل قسوة عن مراحل الاستعمار. كل البشر في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية معرضون لأن يكونوا لاجئين، وكل الوعي الذي تأسس في النصف الشمالي ليس قادرًا على وقف الانبعاثات من مصنع واحد، أو حماية نهر أو بحر مغلق، أو إطفاء النار في غابة، أو تنفيذ قرار واحد من قرارات الأمم المتحدة بشأن وطن محتل مثل فلسطين، أو القدرة على وقف قتل مولود فلسطيني واحد في حاضنة الخداج داخل مستشفى. من تكون إن لم تكن ملتزمًا بكل هذا ككاتب! ستكون واحدًا من أولئك الذين يعطون الطائرات الوقت الكافي لتدمير كل شيء فوق رؤوس كل الناس، بلا رحمة. من يكتب لا يستطيع أن يدير ظهره إلى العالم، عليه أن يدير وجهه إلى العالم وأن يملك ألف عين، لا عينين اثنتين، فحجم الرعب بات أكبر بكثير من حجم العينين التي منحهما الله لنا.
* اللغة.. المقاومة.. الترجمة؟
– فلسطينيًا، نستطيع أن نتصوّر دور اللغة حين نرى حجم الهجمة عليها، فأول ما تأسس مع بداية فكرة إنشاء الكيان الصهيوني كانت لجنة تغيير الأسماء العربية للمدن والقرى الفلسطينية تمهيدًا لاحتلالها، كانت هذه هي المقدمة، قبل أن يقوموا عمليًا بمحو ما يقرب من 500 بلدة وقرية فلسطينية عام النكبة 1948، كما أن برامج محو اللغة العربية لِمَن تبقّى من فلسطينيين في «فلسطيننا البحرية» بعد تهجير الجزء الأكبر من شعب فلسطين، كان واحدًا من أساليب محو اللغة العربية في الطريق إلى محو الذاكرة وأسرلة البشر.
اللغة هي أنت وثقافتك، فلا وجود للوطن خارج ثقافة وطنية.
أما الترجمة فهي فعل حضاري تُطلّ عبره الثقافات على بعضها بعضًا، وهي تُضمِر في كثير من الحالات احترامًا لهذه الثقافة أو تلك، دون أن ننسى أنها تكون أيضًا في حالات كثيرة وسيلة لفهم الآخر تمهيدًا للسيطرة عليه أو إيجاد حلول للسيطرة غير المباشرة عليه، أو تبرير محوه.
السيرة الذاتية؟
– السيرة الذاتية موجودة في كل شيء نكتبه، فحين كتبتُ كتابين عن السينما اعتبرتهما جزءًا من سيرتي الذاتية، لأنهما يقدّمان وجهًا من وجوه حياتي؛ ألا وهو علاقتي بالسينما، ووجهة نظري فيها، وفهمي لها، وحين كتبتُ «كتاب الكتابة» كان جزءًا من حياتي حول علاقتي بالكتابة وإقامتي فيها، فهذه سيرة ثقافية.
في كل كتاب أنتَ موجود، وبدرجات متفاوتة، إمّا حياتيا في مقاطع أو فصول، وإما بوعيك الفنيّ والإنساني، وإما بخبرتك ككاتب أو قارئ.
النجاح في وجود تقاطعات بين حياتنا والأعمال الأدبية مسألة مركّبة، بل معقدة، وتحوّل الخاص إلى عام من أكثر المسائل تحدِّيًا، وهذا له علاقة مباشرة بعلاقة الخاص بالعام، وهو مرتبط بعلاقة الانسان الذي يكتب بالجوهر البشري في العصر الذي يعيش فيه.
قصيدة الحبّ مثلاً، من أكثر الأشياء خصوصية في تجربة الشاعر. بعض قصائد الحب هذه تحسّ حين تقرأها أنها لا تعني لك شيئًا؛ إنها تعني كاتبها وحسب، في حين أن قصيدة حبّ أخرى يرى فيها العشاق أنها مرآة لقلوبهم في كل مكان في هذا العالم.
وجود السيرة الذاتية في النصّ ليست قيمة بحدّ ذاتها، قيمتها في قدرتها على أن تكون مصدرًا عميقًا لإغناء الأدب، بحيث يكون فيها الحدث الخاص مضيئًا ومعزِّزًا للمسار الإنساني والفني، يُغْني العملَ أو يُفْقِره.
الأمر متعلق بالكاتب نفسه، وبمستوى الحياة في حياته.
بالنسبة إليّ، كانت تجربتي الذاتية حاضرة في أعمالي الشعرية، فالشعر متقاطع مع الذات بصورة التحامية، كما حضرتْ السيرة بصورة قوية في روايتي الأولى «براري الحُمّى»، أي أنّ الرواية استندت إلى خبرتي كمدرس في الصحراء السعودية، وحضرت التجربة في أكثر من رواية حين عملتُ في الصحافة 18 عامًا، فمعرفتي بدهاليز الصحافة وما يدور فيها من تفاصيل لها علاقة بحدود الحرية وترويض البشر وخداع القارئ ما كان يمكن أن أعرفها لو لم أعمل في الصحافة، وأراقب كل هذا. كما ساهمت أسفاري إلى أماكن كثيرة في العالم العربي والعالم في كتابة أعمال روائية وشعرية بصورة لافتة.
حديثًا، حضر الأمر بصورة أوسع، وأكثر مباشرة في روايتي الأخيرة «طفولتي حتى الآن»، ولكنها بقدر ما هي سيرتي في رواية، فهي سيرةُ ورواية عشرات الأشخاص الذين كانوا جزءًا من حياتي، وهي رواية تتقاطع مع المفاصل الكبرى التي عاشها الشعب الفلسطيني في منفاه على مدى أكثر من ستين عامًا، كما هي رواية عن عشق الأدب والفن بقدر ما هي رواية حبّ أيضًا ومديح للحياة.
من محاضرة قدّمت في جامعة بنسلفانيا.

1