كلما تقدم الإنسان في السن ازداد انغماساً في الذكريات عن الطفولة والأصدقاء، والحب والأماكن التي كان فيها سعيداً. يبدو أن الحاضر يتعبه، ويريد الهروب منه. ماذا عن المستقبل؟ من يدري كيف سيكون الأمر. الذكريات واضحة ومشرقة، عند السفر إلى الماضي، نميل إلى خداع أنفسنا قليلاً وتزيين بعض الأشياء، ولا نستعيد في ذاكرتنا إلا الأشياء الجيدة والمبهجة، لأن الزمن محا كل الألم، لذلك عندما يواجهنا أي مشكلة في الحاضر، نعود إلى الذكريات، ونقنع أنفسنا بأن الحياة كانت أفضل في السابق، لكن هل كان الأمر كذلك حقاً، أم أننا نسينا الأشياء السيئة فحسب؟ كل شيء نسبي. يكفي تقديم بعض الحجج وسوف تتلاشى الألوان الوردية للذكريات على الفور.
السبب الذي يجعلنا نميل إلى خداع أنفسنا في ذكرياتنا يكمن في عواطفنا. إن علاقتنا بزمان أو مكان أو شخص ما تمنحنا إحساساً بالقرب الذي نحتاجه في الأوقات الصعبة. إنها مثل «حبة مهدئة» في لحظات الاكتئاب. الذكرى مثل «التربيتة» اللطيفة على الكتف، تعيدنا لفترة وجيزة إلى حالة من الهدوء والسكينة. لكن كيف نتفاعل مع الشعور بأن العالم قد تغير، وأن كل شيء ليس كما كان من قبل؟ ماذا يحدث عندما ندرك أن مستقبلنا قد سرق منا؟ هل ندخل إذن ملجأ الماضي؟ هل يمكننا اختيار ماضينا وماضي البلد الذي نعيش فيه؟ الموضوع أرضً خصبة للاستكشاف الإبداعي، وقد تداوله الكتّاب، لعدة قرون. وكتاب مارسيل بروست «البحث عن الزمن الضائع» ربما كان أعظم محاولة لتقييم الحياة الماضية. وبعد مئة عام ونيف يأتي كاتب بلغاري موهوب ليكون نقيضاً لبروست في تقييم الماضي.
غيورغي غوسبودينوف كاتب روائي ومسرحي وشاعر وناقد أدبي بلغاري، من مواليد 7 يناير/كانون الثاني 1968، تخرج في كلية فقه اللغة في جامعة صوفيا. ترجمت رواياته الثلاث إلى الإنكليزية. وهو الكاتب البلغاري الأكثر ترجمة منذ سقوط النظام الشيوعي. وحازت روايته الأخيرة «ملجأ الزمن» جائزة مان بوكر الدولية لعام 2023. وعلى عكس جائزة البوكر الأصلية، التي تُمنح للروايات المكتوبة باللغة الإنكليزية، تُمنح جائزة البوكر الدولية للأعمال الروائية المترجمة إلى الإنكليزية من اللغات الأخرى. وهذه هي المرة الأولى التي تفوز بها رواية بلغارية. وعلى الرغم من تركيزها الواضح على الماضي، إلا أنها تأتي في الوقت المناسب تماما. قالت الكاتبة المغربية/ الفرنسية ليلى سليماني رئيسة لجنة تحكيم جائزة مان بوكر الدولية: «الرواية الفائزة «ملجأ الزمن» رائعة ومليئة بالسخرية والكآبة. هذا عمل عميق يتناول سؤالا حديثا جدا: ماذا يحدث لنا عندما تتلاشى ذكرياتنا؟ لقد تمكن غيورغي غوسبودينوف بشكل مذهل من التعامل مع المصائر الفردية والجماعية، وكان هذا التوازن المعقد بين الشخصي والعالمي، هو الذي أقنعنا وأثر فينا. كتبت هذه الرواية بدقة، وهي تعزز سمعة الكاتب كواحد من الكتّاب الذين لا غنى عنهم في عصرنا، وصوت رئيسي في الأدب العالمي».
وقال غوسبودينوف بعد حصوله على الجائزة: «الاعتقاد الشائع أن الموضوعات الكبيرة مخصصة للآداب الكبيرة، أو الآداب المكتوبة باللغات الواسعة الانتشار، في حين يتم تجاهل اللغات الصغيرة، التي تبقى محلية وغريبة. جائزة مان بوكر الدولية تغير الوضع الراهن، وهذا مهم للغاية». وصرح في مقابلة مع صحيفة بلغارية: «بسبب المأساة التي تتكشف في أوكرانيا، فإننا نسمع الآن المزيد من القصص من البلقان وأوروبا الشرقية».
تتكون الرواية أساسا من تأملات وذكريات، حول مراكز «العلاج الزمني» لطب الشيخوخة النفسي، التي تعالج المرضى الذين يعانون من مرض الزهايمر، وغيره من الأمراض المرتبطة بفقدان الذاكرة بشكل أساسي. وتتناول الرواية مشكلة عدم التوافق بين الزمن الذاتي والموضوعي، والزمن الفردي والاجتماعي، وعلاقة الإنسان والمجتمع بماضيهما، وتثير موضوعا وثيق الصلة بعصرنا – شيخوخة سكان الأرض. حيث يشكل كبار السن نسبة متزايدة من التركيبة العمرية والجنسية لسكان البلدان المتقدمة، ويواجهون بشكل متزايد الخرف وغيره من أمراض الشيخوخة. الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية هما، الراوي وصديقه غوستن الطبيب النفسي الذي يقرر فتح «مركز صحي» للمصابين بمرض الزهايمر في زيوريخ. هناك يخطط لعلاج المرضى بطريقة غير عادية – بإعادتهم إلى الماضي. يعتزم غوستن خلق أجواء الزمن الذي عاشوا فيه وإعادة إنشاء عالم قريب بصريا من كل عقد من عقود القرن العشرين في أجنحة المركز: الأثاث والملابس، وماركات معينة من السجائر، وأغطية المصابيح، وورق الحائط، ومجلات الأرشيف. وغيرها من العناصر الداخلية المميزة الفريدة من نوعها لكل عصر. وعلى هذا النحو تسمح الملاجئ العلاجية للمرضى بالعيش في محيطهم السابق الآمن. «في يوم من الأيام، سوف يكتسب هذا العمل زخماً حقيقياً – يقول المعالج غوستن للكاتب الراوي – وسنقوم بإنشاء هذه المراكز أو المصحات في بلدان مختلفة. الماضي هو أيضا ظاهرة محلية. ستكون هناك منازل من سنوات مختلفة. ستكون لدينا، يوما ما، أحياء صغيرة في كل مكان، ثمّ مدن صغيرة، وربما حتى دولة بأكملها للمرضى الذين يعانون من ضعف الذاكرة، ومرض الزهايمر، والخرف، ولجميع أولئك الذين يعيشون بالفعل في حاضر ماضيهم». وفقا للحبكة، أثبتت الدراسات أن هذه الطريقة لعلاج مرض الزهايمر تعطي نتائج جيدة وتسمح حتى بالشفاء. المركز الصحي ليس مجرد مكان يعالج فيه غوستن المرضى؛ إنه أيضا الفكرة المثالية للراوي لاستكشاف القرن العشرين في أوروبا، فهو مكلف بجمع الأشياء التي كانت تستعمل في ذلك القرن، ويسافر عبر البلدان بحثا عنها.
يصل ضابط الشرطة السرية السابق مع رجل كان ضحيته ذات يوم، يعاني الآن من الخرف. لقد أصبح ضابط الشرطة ذاكرته الاصطناعية، حيث يعيد لحظات السعادة إلى الرجل الذي اضطهده ذات يوم وأبلغ عنه. في إحدى النكات السوداء العديدة في الكتاب، يجد مريض روماني العزاء من خلال تذكر ليس ما عاشه، بل ما تخيله: الحياة في الولايات المتحدة. الحنين لا يتعلق بما كان لديك، بل بذكرى ما كنت تريده: شيك بأثر رجعي من بنك غير موجود، يُدفع دائماً بطريقة أو بأخرى. بعض المرضى لديهم ذكريات من الأفضل تركها دون استعادتها: في إحدى الحالات المروعة، يعالج غوستن امرأة لا تتحمل أن تكون بالقرب من الحمامات. يكتشف أنها ناجية من الهولوكوست، ما دفعه إلى التفكير في أن الذاكرة ليست جيدة في حد ذاتها، وأن النوع الصحيح من النسيان ضروري أيضا من الناحية العلاجية. يكتب غوستن: «أنه كلما زاد الماضي، ضعفت ذاكرتنا».
بدأ أشخاص أصحاء في مراجعة المركز للعيش في الماضي والخروج من الحياة اليومية الصعبة – المستقبل لم يعد يجذب أي شخص، الجميع يريد العودة إلى الماضي. وسرعان ما أصبحت فكرة «الشفاء بالماضي» شائعة جدا لدرجة أن فروع مركز غوستن تفتح في العديد من المدن الأوروبية الكبرى وتبث محطة إذاعية أيامًا كاملة من عقود محددة. ويتخيل غوستن مدنا وبلدات محددة في عصور معينة. وسرعان ما تريد بلدان بأكملها محاكاة فكرته. وفي مختلف أنحاء أوروبا، تروج الأحزاب السياسية لعقود مختلفة في تاريخها الوطني. وتجري الاستفتاءات بالفعل، وتختار البلدان بجدية العقد الذي ترغب العيش فيه في المستقبل، ويصبح العالم مكانا أكثر عبثية مما كان عليه من قبل. يصبح التمييز بين الماضي والذاكرة مهما في وقت لاحق من الرواية، عندما يتم اختطاف فكرة غوستن – كما كان من المفترض أن يحدث دائما – من قبل السياسيين.
ففي بلغاريا مثلاً، يصطدم الاشتراكيون الذين يريدون إعادة إحياء حقبة الستينيات والسبعينيات بالقوميين الذين يتفاخرون بانتصارهم على العثمانيين في عام 1876. إن استعادة المجد الماضي وسط فقدان الذاكرة الجماعي يشكل منجماً ذهبياً للمحتالين مثل صديق الراوي القديم ديمبي، الذي يجهز جثة غيورغي دميتروف المحنطة، أول زعيم شيوعي في بلغاريا، ليلوح بها لحشد من المعجبين. يجد غوسبودينوف الفكاهة في الكآبة، حيث تثبت أوروبا، مرة أخرى، أن معرفة التاريخ ليست عائقا أمام تكراره. وهو يستمتع بالصور النمطية الوطنية: «إذا لم تتمكن الدول الاسكندنافية من تحديد أي فتراتها السعيدة تختار، فإن رومانيا أيضا تعاني من الشك، لكن لأسباب معاكسة». إنه أمر مضحك وسخيف، لكنه مخيف أيضا، لأنه حتى عندما يلعب غوسبودينوف بالفكرة باعتبارها خيالا، يبدأ القارئ في التعرف على شيء قريب منه. وقد كتب المؤلف «ملجأ الزمن» في الفترة بين استفتاء الخروج البريطاني من بريكست والغزو الروسي لأوكرانيا، وكلاهما يمثل بطريقته الخاصة استخدام الحنين كسلاح، واختيار عصور محددة في النظام العالمي القديم للمشفى الزمني. هذه الرواية لعبة فكرية ذكية عالية المستوى مع القليل من الاستثمار العاطفي، لأن غوسبودينوف كاتب يتمتع بطاقة كبيرة ومهارة عالية. يرتبط الراوي بعلاقة وثيقة مع غوسبودينوف نفسه: بلغاري، ولد في عام 1968، تظل نهاية الشيوعية بالنسبة إليه كما في هذه الرواية صورة شبحية، نقطة التقاء بين الماضي والحاضر. إن عاطفته تجاه تلك الفترة صادقة، لكنها خالية من الأوهام. يمكنه استخلاص شخصيات ذات أبعاد كاملة من تفاصيل ذكرياتهم المتناثرة. إن انتقالاته – بين الفكاهة والحزن، والظرف العبثي والمأساة الصارخة، والشفقة والملاحظة الساخرة – ليست مزعجة أبدا.
طرأت فكرة الرواية في ذهن غوسبودينوف قبل خمسة عشر عاما. وكما قال للجنة بوكر، فقد أدرك فجأة أن الماضي يمكن أن يصبح «وحشاً خاصاً» وأن العودة الجماعية إليه عديمة الجدوى: «كانت رغبتي في كتابة هذه الرواية تنبع من شعوري بأن شيئا ما قد حدث خطأً في سيرورة الزمن. كان هناك قلق في الهواء، ويبدو أنه يمكن الشعور به جسديا». كان غوسبودينوف منزعجا من الانقسام في العالم، والشعبوية المتزايدة، وإصرار الأوروبيين والأمريكيين على «الماضي العظيم». إن العودة إلى الماضي لا ترتبط فقط بعدم الرضا عن الحاضر، بل وأيضاً بالحاجة إلى التحكم في المستقبل. ولتحقيق هذه الغاية، قد تحاول الشعبوية العودة إلى ماضٍ مثالي لم يكن موجوداً قط، أو ابتكار تقاليد جديدة، أو استعادة شيء عفا عليه الزمن بشكل انتقائي ومشوه. ويتجلى هذا في الرواية في فصل «في بلد واحد» مع مثال بلغاريا. يقول غوسبودينوف: «لقد نشأت في نظام يروج لمستقبل زاهر في ظل الشيوعية. والآن تغيرت المخاطر، أولئك الذين باعوا «المستقبل المشرق» تحولوا الآن إلى شعبويين يبيعون «الماضي المشرق».. ولهذا السبب أردت أن أروي قصة «الاستفتاءات على الماضي» التي أجرتها جميع الدول الأوروبية. كيف يمكنك العيش مع نقص المعنى والمستقبل؟ ماذا سنفعل عندما يبدأ جائحة الماضي؟».
عنوان الرواية في حد ذاته يشير إلى «المأوى من الزمن» و»المأوى داخل الزمن». كلاهما جذاب، لكنه مستحيل. وإذا كان الحنين يبدو وكأنه مصدر غير ضار للمشاعر الممتعة، فإنه الآن يشبه على نحو متزايد أداة قوية وخطيرة للتلاعب. وبطبيعة الحال، تكمن وراء هذه المعالجات المثيرة درجة معينة من الخداع. ليست كل الذكريات المنسية هي ذكريات سعيدة. إن إعادة الناس بشكل مصطنع إلى الماضي، والسؤال الأوسع حول ما إذا كان هذا يجلب العزاء حقا، وما إذا كان الانغماس في الحنين علاجيا أم ضارا ــ هو السؤال المركزي في رواية غيورجي غوسبودينوف.
الفكرة الرئيسية:
أصبح غيورغي غوسبودينوف نجما أدبياً إثر فوزه بجائزة مان بوكر الدولية، وأجرى مقابلات صحافية مع ممثلي الصحافة الغربية والبلغارية. وقال لصحيفة بلغارية: «إن رواية «ملجأ الزمن» في جوهرها هي استكشاف لعدم جدوى الخوض في الماضي. كما أثبت ذلك غزو بوتين لأوكرانيا المجاورة. أعتقد أن حرب بوتين هي حرب من أجل الماضي، فهو شغوف بالماضي. كانت أوكرانيا «أرضه» في الأربعينيات والخمسينيات من القرن، لكن المشكلة تكمن في أنك لا تستطيع العيش في الماضي، وهو يحاول جر الجميع معه إلى الماضي، وهذا أمر خطير للغاية على المستوى الأوروبي والعالمي». ويدعو غوسبودينوف إلى عدم التركيز على الحنين إلى الماضي على حساب القضايا المعاصرة. كتب غوسبودينوف «ملجأ الزمن» بعد عام 2016، الذي شهد التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ووصول ترامب إلى السلطة، ويوضح المؤلف أنه أراد تأليف كتاب يصف بدقة الأزمات التي تواجه العالم ويقول: «لقد نشأت في بلغاريا، التي كانت دولة شيوعية حتى عام 1989. أتذكر كيف وعدونا بمستقبل مشرق، ولم أرغب في أن يبيع أحد لابنتي قصة عن «الماضي المشرق»- لم أكن أؤمن بهذا البيان الفارغ.
يشعر المؤلف بالقلق إزاء الصعود المتزايد للشعبوية والقومية في أوروبا، خاصة في بلغاريا. أردت أن أكتب رواية ديستوبية تظهر ما قد يحدث في المستقبل القريب. إن الأدب الجيد وسيلة فعالة ومضادة للبروباغاندا التي تنشرها الحكومات، ومن المهم جداً «محاربة البروباغاندا بالأدب – وهو ما فعله العديد من الكتاب الأوروبيين الجيدين». عندما سئل عما يجعل الرواية ناجحة، قال غوسبودينوف مبتسماً: «ما لا يقتلني يجعلني كاتبا». التجربة الحياتية هي التي تجعلك كاتبا عظيما!!
رواية ملجأ الزمن: حمّى الحنين إلى الماضي تجتاح القارة العجوز!!
بقلم : جودت هوشيار ... 21.06.2024