من الأسئلة التي توجَّه إليّ باستمرار: هل أنتَ من غزة؟
وحين أسألهم، ما الذي يجعلكم تعتقدون هذا؟ يجيبون «لأنكَ من البريج»، فأوضّح لهم أن «البريج» (تصغير بُرْج)، قرية تقع ضمن أراضي القدس، ولا علاقة لها بمخيم «البريج»، فيكتفون بالإجابة.
عام 1984، وصلت إلى رام الله بتصريح من ذلك الذي يحصل عليه الأقارب من الدرجة الأولى للمُقْتَلعين من أهلهم خارج فلسطين، لكنني أمضيت فترة وجودي فيها في غزة، لا لأنني تمكّنت من زيارة غزّة التي لم أزرها حتى الآن، بل لانشغالي بعملية «الحافلة 300» التي قام فيها أربعة من الشباب الصغار، من مجموعة «جيفارا غزة» بالسيطرة على تلك الحافلة الصهيونية وطالبوا بالإفراج عن أصدقائهم الأسرى في معتقلات الكيان.
كنت أجمع ما أصل إليه من أخبار، من الصحف أو الناس، حول تلك العملية، وكانت بعض خفايا تفاصيلها قد وصلت إلى الإعلام، من مثل: أن أولئك الشباب الصغار قاموا بإنزال امرأة «إسرائيلية» حامل، لأنهم أشفقوا عليها وعلى جَنيْنها، ومن بينها تلك الفضيحة التي بدأت تنتشر، حين تبين أن اثنين من هؤلاء الشباب استُشهدا خلال اقتحام الحافلة، أما الاثنان الآخران، اللذان تسرّبت صورة لهما وهما على قيد الحياة إثر وقوعهما في الأسر، فقد تمَّ إعدامهما باقتلاع أعينهما وتهشيم جمجمتيهما.
عدت إلى عمان وحقيبتي الصغيرة تحوي الكثير من قصاصات الصحف الفلسطينية؛ كتابات وترجمات، في زمن لا إنترنت فيه، ولا إمكانية لإرسال الصّور بأي وسيلة.
كنتُ خائفاً من العثور على القصاصات عند التفتيش، أثناء العودة، في زمن أيضاً كان التفتيش يصل فيه إلى مرحلة يُعرّى فيها الإنسان من كلّ ملابسه تقريباً.
مؤرَّقاً كنت بتلك الحكاية الكبيرة، وموزَّعاً بين أعمارهم الصغيرة وإنزالهم للحامِل واستشهاد الأربعة.
لم يكن في مخيلتي وقلبي حتى أواسط الشهر التالي غير صورهم تلحّ عليَّ، وحينما جلست لكتابة القصيدة، توقّعت أن تجيء في أربع صفحات، لكنها راحت تطول وتطول، إلى أن تحوّلت إلى قصيدة غطّت صفحات ديوان من 96 صفحة.
الغريب في الأمر، أنها كُتبتْ خلال ثلاثة أيام، هل أقول بلياليها، لا أظنّ ذلك، ولكن الحالة تلبستْني ولم أستطع الخروج منها إلّا بعد أن أنهيتها.
في عام 1996صرح أحد الجنود الذي أصبح عضواً في الكنيست، إيهود ياتوم، لصحيفة يديعوت أحرونوت خلال مقابلة صحافية قائلاً: «لقد هشّمتُ جمجمتيهما.. وإنني فخور بكل ما فعلتُ».
من الأسئلة التي توجه إليّ باستمرار: هل أنت من غزة؟
وحين أسألهم، ما الذي يجعلكم تعتقدون هذا؟ فيجيبون «الحوار الأخير، ثم مرايا الملائكة»، وكأن الذي يكتب عملين شعريين عنها لا بدّ أن يكون قد ولِد وعاش في هذه المدينة التي كانت دائماً أوسع من بحرها، رغم ضيق الحال وضيق المكان.
عام 2001، بعد سبعة عشر عاماً عدتُ إلى غزة من جديد، بعمل شعري آخر عن شهدائها، بديوان «مرايا الملائكة»، ولكنه هذه المرّة عن رضيعة اسمها «إيمان حِجّو»، استشهدت وهي في الشهر الرابع من عمرها؛ شظية قذيفة أطلقتها دبابة مزّقتْ بطنها. كانت إيمان جميلة بعد استشهادها إلى حدّ لا يصدّق، إلى درجة أنني للمرة الأولى أدركتُ كيف يمكن أن يكون الجمال تحدّياً للموت، وقادراً على مقارعته.
أرّقني ذلك الوجه الصغير، وقد كنت دائماً أتساءل: كيف يتمّ اختصار شهيد في قصيدة، كيف يمكن للرثاء أن يكون رثاء وهو يكتفي بما يبوح به كاتبُه من مشاعر؟ كيف لا نترك للإنسان الذي استُشهد مساحته ليقول ما يريد، ليمشي بعد الموت، وينام ويصحو، يغضب ويرضى، يجوع ويشبع، ويبرد ويتدفأ ويتحدث معنا، ويقول كل الذي يريد فينا وفي حياته وفي موته أيضًا.
في تلك الأيام، مدّت لي تجربتي الروائية يد المساعدة، كما مدّت لي هذه اليد حين كتبتُ كثيراً من قصائدي وأعمالي الشعرية، ومنها ديوان «بسم الأم والابن، 1999» الذي يشكل احتجاجاً على الطريقة التي يتمّ فيها اختصار الأمِّ بقصيدة أيضاً، فكان لها عمل شعريّ من 33 قصيدة يسرد غربتها وأدقّ مشاعرها عن نفسها وعن أبينا وعنّا. وإذا كان مرايا الملائكة هو اللاحق، فإن ذلك مهم على أكثر من مستوى؛ ففي الأول كتبتُ سيرة أمّي «الواقعية» التي كانت على قيد الحياة، وفي الثاني كتبت سيرة الشهيدة إيمان، السيرة المتخيلة، التي صدرت في عمل شعري من 180 صفحة.
أعادت لي إيمان تراجيديات الإغريق، حيث كانت الآلهة تنقسم إلى نصفين، على الأقل، مع البطل وضده، أما الحكاية الفلسطينية فظلت -حتى اليوم- تحتضن بطولة أخرى بوضوح لا لبس فيه، حين يقف الإنسان عارياً بمفرده أمام سؤال مصيره، دون أن يملك بذخَ الوقوف لحظة كي يُحصي عدد أولئك الذي يقفون معه، أو عدد الأعداء الذين يتناسلون من رحم أعدائه، يقف وحيدًا أمام قدَره مُدركاً أن الشهيد الذي يحتضن أرضه ليس له من غطاء يستره سوى الشهيد الذي يليه..
من الأسئلة التي توجه إليّ باستمرار: هل أنت من غزة؟
وحين أسألهم، ما الذي يجعلكم تعتقدون هذا؟ يجيبون «الحوار الأخير ومرايا الملائكة، وأعراس آمنة»، وحين أجيب: لا لستُ من غزة، فيسألون: هل عشتَ فيها؟ زُرتها؟»، فأجيب: أبداً، فيعلّقون: ولكن كيف تعرف تفاصيلها كلّها هكذا؟
عام 2004، لو لم أكن واثقاً مما أحسّ به لكانت رواية «أعراس آمنة» عملاً شعريّاً ثالثاً لي، عن غزة، فالصديق الناقد الذي أحبه وأثق به حين أخبرته بنيّتي كتابة رواية عن غزة، سألني: عن أي شيء ستكتُب؟ جازفتُ وتحدثتُ عن فكرة الرواية، وهذا أمرٌ لم يحدث في حياتي إلّا تلك المرّة.
بصرامة قال لي: هذه الفكرة يمكن أن تكون جيدة لقصيدة، أما لرواية فهذا أمرٌ مستحيل.
ما قاله بتلك الصورة اليقينيّة أوقَدَ فيّ تصميماً غريباً على أنّ ذلك ممكنٌ.
في هذه الرواية عرفت غزّة أكثر، كان عليّ أن أسير في شوارعها، في جنازات شهدائها، وأن أنتظر مع شخصياتها أمام بوابة «مستشفى الشفاء» ومع «رندة» وهي تخاطب طيف غسان كنفاني، الشهيد: «أتعرف ما مصير الحكايات التي لا نكتُبها؟ إنها تصبح مُلْكاً لأعدائنا».
ثلاثة كتب عن غزّة، ثلاثة لقاءات..
إنها المدينة الفلسطينية الوحيدة التي كتبتُ عنها هذا العدد من الكتب. هل هناك عمل آخر عنها؟ عملان؟! ربما.
من الأسئلة التي توجّه إليّ هذه الأيام أيضًا: هل أنتَ من غزة؟
ولكنني لم أعد أسألهم: ما الذي يجعلكم تعتقدون هذا؟ لأنّ غزة قد اتّسعت اليوم بحيث لم تعُد أوسع من بحرها وحسب، بل لأن العالم كلّه أصبح جزءاً صغيراً منها.
سؤال واحد وثلاثة لقاءات مع غزة!!
بقلم : إبراهيم نصر الله ... 15.08.2024