أحدث الأخبار
الأربعاء 04 كانون أول/ديسمبر 2024
من شغف الحكاية الى سلطة المؤلف ....قراءة في برديات طارق العمراوي!!
بقلم : أ. سلوى بن رحومة  ... 03.12.2024

برديات ومفردها بردية هذه الكلمة التي نحتاج الى التوسع فيها باعتبارها محطة سوف نقف عندها في أكثر من عنوان داخل الكتاب
والبردية اسم مشتق من نبتة اسمها البردي "سعد بردي" وهي مادة مشابهة للورق السميك. استخدمت كسطح للكتابة في مصر القديمة منذ ثلاثة الاف عام ق .م .صدرها المصريون بعد ذلك للاستعمال في العالم . كما تطلق البردية على لفافة الأوراق التي تكون جنبا الى جنب في تسلسل والتصاق.
ولابد أن نعرج في هذا السياق على الهيروغليفية بما هي مفتاح من مفاتيح رموز هذا النص. وهي أقدم عملية كتابة، استعملها المصريون لتسجيل اللغة المصرية والعمليات الحسابية. أساس هذه الكتابة استعمال الحرف الرمز الدال على الشيء. ويشاع أن بعض هذه الحروف دخلت الى العربية مثل الهاء والواو والشين. استخدموا فيها الحبر بلونين على بردياتهم وهما الأسود والأحمر الأسود لعموم الكتابة والأحمر للعناوين. والهيروغليفية لم تكن فقط نمطا رسميا للكتابة وتسجيلا للأحداث وإنما فنا زخرفيا جميلا يزين أسطح التماثيل والالواح الحجرية.
والملفت للنظر أن اغلب الكلمات تتكون من حرفين مثل (ست) و تعني العرش و مثل (بر) وتعني البيت او من ثلاث كلمات مثل (نفر ) و تعني جميل .
و بالعودة الى منجز الكاتب طارق العمراوي فهو يجرب في بردياته كرسام يغامر بالوانه حين يصبها كاملة على السطح الذي اختاره محملا لها، يحركها باتجاه هو يقصده . مستعمالا اليات تشكل معه فكرته و تساعده على وصولها للمتلقي على الصورة التي يرتضيها.
طارق العمراوي الذي يطل علينا بهذا الكتاب دون سابق اعلام بجنس الكتابة ، يكتفي بأن يدعوك لتذوق ورقة فنية يراها جديرة بالتفكير و التعمق.
منجز في 5 لوحات على43 صفحة في حجم صغير، بلوحة غلاف توجهك في الحكم على المحتوى . صورة الغلاف و العنوان و العناوين الداخلية والمحتوى تصب كلها في خانة واحدة .حتى اسم الكاتب سوف تخاله مصريا لتؤكد لنفسك انها الحقيقة الوحيدة التي يجب ان تكون
هذا التونسي الذي قاده الشغف ليشق هذا الطريق وحيدا تدفعه رغبة جامعة في المغامرة ليكون في رحلته مصريا الى حد بعيد.
معجم الأسماء في البرديات
حديث مطول عن الأسماء الفرعونية بين الدلالة و الخلفية في مقال لحسين عبد البصير الروائي و الاثري المصري (نشر في الشروف المصرية في 2019 )
يمكن أن يجيب على أسئلة كثيرة في هذه البرديات . يتحدث فيه عن خصوصيات تسمية الأشخاص لدى الفراعنة. إذ يقول انها ترتبط بمرتبة المولود البكر وغير البكر كما ترتبط بوضعية انجاب الذكر بعد اناث او انثى بعد ذكور. وهي أحيانا ذات مدلولات دينية برغبة من اهل الوليد في التدين او الإقرار بفضل المعبودات. وأحيانا أخرى ذات مدلولات دنيوية أو خلفية معنوية كدفع العين او جلب الخير. ومنها ما يصف ظروف وضع الطفل من عسر او سهولة او هو يسجل عبارة نطقت بها الام او الداية اثناء الولادة.
ومن حيث تركيب الأسماء فمنها البسيط ومنها المركب الذي يحتوي على الاسم والكنية ، اسم الدلع واسم يختاره ابوه واسم يختاره بقية الاهل.. وهم عادة لا ينادون بالاسم الكامل وانما يختصرونه و ينغمونه، مثلا الملك خوفو والذي كان اسمه الكامل " خذوم خوفوى"
وبالعودة الى برديات العمرواي فان اختياراته لم تجانب الخصوصية التاريخية مقارنة بما عرضه حسين عبد البصير. فقد اعطى العمراوي أهمية للأسماء في بردياته. حاول اتباع إيقاع الأسماء و اختيار الحروف الأكثر استعمالا .بل ان الكثير من الأسماء مشابهة لأسماء اما ملوك او أسماء الهة و رجال دين .فقد أراد خوض في هذه البرديات أعطى العمراوي أهمية للأسماء فاتبع اختيار الحروف الأكثر استعمالا و الإيقاع الأكثر شياعا في نطق الاسماء. محاكيا في الكثير منها أسماء الملوك أو الالهة. مراعيا بعض متطلبات تجربة السرد لتكون مدخل مصداقية بينه وبين القارئ.
فقد اختار في البردية الأولى تقديم شخصية الاب حرحور وهو اسم يقترب من اسمه الاله بحتحور والاله حتحور . و في بردية الموسيقى اختار اسم الابنة ( تي ) وهو اسم قريب من أسماء الالهة الأنثى التي كانوا ينادونها تي تي تصغيرا لاسم مطول لها . و اختيار لمعلم الموسيقي إسم (سن نفر ) مجتهدا في استعمال كلمة (نفر) التي يستعملها الفراعنة كناية عن جمال الشخص وهو اسم يقترب من اسم احد الملوك نفر إف رع
واجتهد في بردية الكهنة لتقديم شخصيات عديدة منها مرنع الاب والذي يقترب اسمه من اسم الفرعون خفرع والام تاي وهو اسم قريب من اسم الالهة شاي معنا ونطقا .
نكتشف في بردية الكاهن روما أن الاسم هو اختيار لشخصية تاريخية ينسخ الكاتب إسمها و بعض مواقفها ، اما امينية زوجته فاسمها في البردية يقترب من الاسم الحقيقي امنتت إسم زوجة الكاهن روما التاريخي.
و يختم في بردية التمثال بتفويض شخصية غريبة الاطوار يحملها مسؤولية بطولة النص. شخصية التمثال الذي التصقت كينونته باسمه. لا يمكن أن تكون إلا إسما لعبقرية الكاتب في صياغة اهداف السرد.
و في بعض بردياته بأن يعرف شخوصه من خلال علاقة القرابة الدموية او من خلال إنتمائها الوظيفي أو الطبقي ( العبد – الجندي – ابن الكاهن روما...) . هذه الاختيارات ليست فقرا في ابداع أسماء متماهية مع السياقات الفرعونية وانما لتقسيم الشخصيات بين مهمة وثانوية أحيانا وللتحكم في الحبكة السردية أحيانا أخرى .
2-علاقة التاريخي بالسرد في البرديات
رحلة الكاتب الأولى الى المقابر ذلك العالم الموازي الذي اختار المصريون القدامى ان يعتنوا به اعتناءهم بحياتهم . حتى أن طيبة الغربية كانت تسمى مدينة الأموات. هناك نحتت قبور الملوك على شكل سراديب في الجبال، يعدون فيها ما يمكنهم من المرور بسلام الى العالم السفلي .ففي طيبة الغربية تتم عملية التنزيه و دخول جنة الاخرة بعد موافقة كبير الالهة اوزيريس حسب اعتقادهم . هذه بعض خفايا عالم المصريين القدامى الذي يدخلنا اليه طارق العمراوي
يستعمل الكاتب الحوار ليكون سبيل االوصل بين الواقع و الحكاية .لا يستغني عن الوصف من موقع الراوي للمشهد والاحداث. ففي ص 7 إشارة على لسان الراوي لوسائل النقل آنذاك " تتقدم العربة نحوهما " ثم إشارة الى المكان في نفس الصفحة
يقول 7 " يصلون بعد مرور قرابة الساعة و العربة في سرعة تختلف من مكان لمكان فالطريق وعرة جدا خلف جبال تحجب الرؤية " و هذا تلميح للحديث عن طيبة الغربية من خلال تضاريسها الوعرة .طيبة الغربية التي سبق ان عرفناها بمدينة الموت سراديبها قبور. هذا التشبيك بين الواقعي التاريخي و الحكائي يزيد النص رونقا باتجاه الصدق المزعوم.
في هذا الاتجاه يتعمق الكاتب في انقل أبرز انشغالات المصريين وهي الحضير لاحتفالاتهم الدينية بها هي تداخل مهن و فنون ص6 " والده الذي يلقنه احد اشرف المهن التي يقدرها الفراعنة لانها تخلدهم عبر ما ينقش في معابد الالهة اين يقدم هؤلاء الفراعنة ولاءهم الدائم لالهة وادي النيل في الأعياد او في الانتصارات الحربية او على جدران مقابرهم العظيمة "
يبدو الكاتب حريصا على نقل بعض الوقائع التاريخية بالاسماء من خلال الحديث عن الالهة امون واتون وعرض العادات الرسمية في قراءة نشيد الشمس وقصيدة قرص الشمس .هذه الحقائق من التاريخ الفرعوني يوشح بها الكاتب بردية المقبرة ليكمل الشكل بالمعنى ويصبغ على برديته الشرعية و الجدية معا.
إلا ان البرديات تختلف بين الجدي و الأقل جدية من الاسلوب الى الموضوع .يعرفنا الكاتب في كل مرة بمجال او صفحة تاريخية من الحياة المصرية القديمة . يختار لنا لوحة الحياة بعد ان اختار لنا لوحة الموت.
ففي البردية الثانية يحدثنا عن الموسيقى .بردية خفيفة الظل مرحة المعاني و الكلمات .يدخل فيها العنصر الانثوي ليحقق دور البطولة في هذه البردية و لنتعرف من خلالها عن واقع مراة طبقة الملوك .الاميرة تي وابيها الملك اني .يجتهد الراوي في وصف كل ما يوحي الى بانتمائهما الطبقي في ص 14 " ترتدي ثيابا بيضاء اللون تظهر تضاريس جسدها الملكي الذي يزينه عقد من الأحجار الكريمة فصوصها على شكل جعارين ودلايتها تصور الالهة و الرموز الملكية ممسكة بكرات من فضة ..."
الاميرة تي التي تقضي الوقت في تعلم الفنون والعلوم بما يقتضيه انتماؤها الطبقي.
فقد جاء على لسان معلم الموسيقى في ص 15 وهو يخاطب تي قائلا " لا يمكن لعائلة ملكية ان لا تهوى الموسيقى ولا كيف توضع الآلات الموسيقية، عطرك اميرتي ذكرني بأنشودة عازف القيثارة "هذا تقريبا عالم المرأة الذي قادنا اليه الكاتب بحثا عن ملامسة جوانب من الحياة الفرعونية للبيوت الملكية. والكاتب واع بان صورة المرأة لا تقف عند العائلة الملكية لذلك فهو يعرفنا على المرأة من خلال طبقات المجتمع كلما سمحت قصصه بذلك. اذ يقودنا للتعرف على الام الفرعونية من طبقة النبلاء من خلال حوار فرعي في بردية الكهنة بينها وبين ابنها الذي ينوي مغادرة البيت نحو المعبد لينضم الى كهنتها. صورة الام فيها لا تختلف عن باقي الأمهات في كل الأزمنة من حيث الضعف والفيض العاطفي والتعلق بالاجتماع الاسري.
الا ان موضوع الانتماء للكهنة ونذر الحياة لخدمة المعابد وما فيها من الهة بقي مسيطرا على الحوار في مجمل البردية. اذ يتوسع الكاتب في الحديث عن شروط الانتماء الى المعابد ومراحله من خلال شخصية سيم الذي يقول في ص 28 " فالقبول يتم اما بتكليف من الفرعون او بحق الوراثة او بشراء المناصب او بالانتساب "
ويسترسل الكاتب في الحديث عن هؤلاء المنتمين لخدمة المعابد حيث يقول على لسان سيم في ص 28 " لا يمكننا وضع بعض أنواع من الاقمشة الصوفية المصنوعة من الكائنات الحية " ويكمل الإجابة قائلا " ننسج كل الألبسة من خيوط الكتان الناعمة كما نختص بانتعال الصنادل المصنوعة من النخيل "
طارق العمراوي يغوص في ص 29 باحثا عن تفاصيل أكثر ايغالا في حياة الكهان حين يسال ويجيب على لسان سيم "كم من الوقت لم تجامع فيه امرأة "
نخاو ابن الوزير الذي حاد عن مسار العائلة اذ يختار الاستكانة الى عالم المعابد وحياة الاسرار. يحدثه سيم عنها في بقية الحوار معلما إياه ابجديات العمل من الصباح الى المساء فاتحا امامنا ابوابا من المعرفة لمن يريد اكمال البحث خارج البرديات فهي حياة لا نعلم عنها الكثير باعتبار من بين خصائصها الكتمان. الا من بعض المقالات أو بعض الروايات مثل عزازيل التي تحدثت عن كواليس الانتساب للحياة الدينية بتفاصيل مطولة
سلطة الكاتب
هناك من يقول بانه لا يوجد شعراء وكتاب وانما يوجد شعر وادب. ينظر اليه كعامل ماهر يرتب المادة التي تعترضه او يصادف ان تكون في متناوله
كتب كثيرة تحدثت عن موت المؤلف وهو يقوم بعملية الصنع والترتيب وأخرى عن تمكنه من التحرر خلال هذه العملية مثل كتاب "سلطة المؤلف وشظايا النص قراءة نقدية في صناعة الادب وصنعة المؤلف " ترجمة الدكتور محمد درويش (مؤلف مترجم عراقي).
أين يمكن ان نصنف طارق العمراوي في هذه البرديات، لأي مدى كان بارعا في ترتيب مادة إبداعية. الى أي مدى فرضت سلطتها عليه فقتلت فيه المؤلف .
اختار الكاتب الحوار أسلوبا لكتابة هذا النص الإبداعي. لان النص الحواري يوصل الفكرة واضحة المعالم الى المتلقي. فالحوار قادر على طرح كل الأسئلة والإجابة عليها. وهو أكثر أسلحة الكاتب فتكا بحبل التبعية، اذ يبقى بعضها مفتوحا، على اعتبار أن تفجير السؤال أهم أحيانا من الإجابة عليه. وهي أيضا من استدراجات الكاتب ليكون المتلقي حرا في الايمان بما تلقاه من عدمه. ومن يقدم لك مفاتيحا بهذا الوعي لا يمكن ان يكون مقيدا باتجاه أي مادة إبداعية تعترضه. بل ان جرأة الكاتب تتخطى النقل والتعليق وصولا الى النقد اللاذع وتخطي عتبة الممنوع على لسان بطله نخاو في ص 32 " نخاو: وما هو موقفك من تدخل الكهنة في حياة الملوك حتى وصل بعضكم الى سدة الملك
سيم: ربما هي مصلحة الدولة والان سوف نترك هذا المعبد لزيارة غيره اين سنجد الكهان الذين امتهنوا الطب وحفظوا اسراره
نخاو: وهو كذلك " (انتهى الحوار)
أسئلة كثيرة يعري بها الكاتب النوايا ويفرض بها نفوذه على الحوار. حوار تضطره أهدافه في التحرر والنقد الى الخروج نحو حوارات فرعية تكشف ما يدور في كواليس المجتمعات. ما لا يخبرنا المؤرخون عنه دائما.
لذلك نرى الكاتب وان تحدث عن شخصية تاريخية لا يكتفي بالتحبير لها مثل قصص العائلة 18. وانما اتخذه مدخلا لثرثرة جادة يضعها بحكمة العارف بكتابة تاريخ الشعوب. موكلا هذه المهمة الى زوجة الكاهن روما أمينية التي تطلب ان يحسن النحات صورتها بحيث يقربها من طبقة لا تنتمي اليها حين تقول في ص 39 "قدمت فقط طالبة ان تكون تسريحة شعري كما الملكات مع ثوب ابيض وحزام اسود تتدلى منه زهرات اللوتس المقدسة و اقراط جميلة بها زوج من الحيات وعقد من الحجارة الكريمة " وهي تطلب لزوجها أيضا ان يصوروه بهيبة تميزه و تعلي من شانه وتجعله في مقدمة الكهان و الحال على ما يبدو انه ليس كذلك اذ تقول امينية في ص 40 " زوجي الكاهن يقدر اعمالكم وفنكم وارجو ان تضع له العقد الذي يحبه كل الكهنة و يميزهم " .
المفاجئ في هذه الحوارات يأتي في بردية التمثال حيث مع كثرة الشخوص يبقى اهم الحوارات هو الذي يدور بين النحات نفر والتمثال هذه المفاجأة التي يصنعها الكاتب ليخرج بالحوار الى أفكار تبدو فرعية حسب الحبكة لكنها رئيسية إذا اعتبرناها المساحة الحرة للكاتب بض أبواب التساؤل والوعي بان ما يمكن أن يقال ليس الحقيقة الوحيدة. التمثال الذي يشي بانتصاراته على هذه الحضارة التي تزعم أنها حصينة في حين هي فاشلة بما تتعرض اليه من سرقة النفائس في القبور ونسبية نجاح عمليات التحنيط الكلي. هذه الاعمال التي يسعى اليها المصري القديم لحفظ مقامه يعتبرها التمثال غير كافية فيتباهى باللجوء اليه لتسجيل تاريخي ثابت لهذا المقام.
هكذا يضع الكاتب بصمته على ما ينقله لنا من اخبار هذه الحضارة محطما حواجز النص المغلق.
بعقلية المثقف الواعي والكاتب المتحرر قاد الكاتب حواراته الفرعونية الى حيث يريد بين السرد التاريخي والنثر الخيالي مثيرا فينا شغفا كبيرا لنكتشف هذه الحضارة أكثر ونتحرر مما صدقناه يوما ما على انه الحقيقة الوحيدة.
الشكل في هذه البرديات يصبح حالة من الكتابة تندرج ضمن حالات التجريب الإبداعي فقصيدة النثر تحررت من العمودي والقصة القصيرة أوجدت بعدها القصيرة جدا والزمن كفيل بإثبات نسب بعض المولودات الجديدة من عدمه. ورغم أن طرح السؤال اهم من الإجابة أحيانا فان البحث في سؤال الشكل الذي قدمه لنا الكاتب في بردياته ليس أهم مما قدمه لنا الكاتب في بردياته ليس أهم مما قدمه لنا من مادة إبداعية تستوجب روحا نقدية جديدة تحترم ولادته.

1