الكابوس الأعظم في حياة أي فرد هو الإحساس بأن الزمن يسابق الريح، بينما لا يزال يقف لصيقًا بمكان ما لا يقوى فيه على الحركة ولا يستطيع الفكاك مما يحدث له. ويسوء الأمر عند علمه أن هناك طريقاً يجب على قدمه أن تخطوه بلا رجعة. بيد أنّه يمكن الفكاك من الدائرة المفرغة لمسار إجباري من خلال خلق رافد جديد يستطيع فيه الفرد تحقيق ذاته، وبذلك يضاعف من مدى حياته ويغذي روحه بما ينعشها ويدفعها لحالة يبلغ فيها الصفاء والسمو. لقد حقق الشاعر والفيلسوف الأنجلو-أيرلندي المعاصر “ديفيد وايت” David Whyte (1955) تلك المعادلة عندما عمل بنفسه على تغيير مسار حياته. وإن كان ما يميِّزه هو القدرة على النزول للجموع ونقل تجربته الشخصية لهم، وكان هذا من الميزات التي جعلته يؤثِّر في نظرة جمهور القراء للحياة بمؤلَّفاته الشعرية التي وصل عددها عشرة دواوين.
وفيما يبدو أن “دافيد وايت” اعتنق سبيلًا لا يحيد عن التفاؤل والبحث عن الأفضل، حتى ولو في أحلك المواقف. فمسيرة حياته تسري على نمط نصيحة الروائي والقاص الأمريكي “ويليام فوكنر” William Faulkner (1897-1962) التي نصح فيها باغتنام كل فرصة تسنح للمرء، أو كما قال: “استسلم واغتنم الفرص. قد يكون الأمر سيئًا، ولكنها الطريقة الوحيدة التي يمكنك من خلالها القيام بأي شيء جيد حقًا”. فمهما كان الأمر سيئًا، المهم أن يخوض المرء التجربة ويحاول أن ينجز أي شيء حتى ولو كان سيئًا؛ فأقبح الأشياء يمكن تجميلها، لكن لا يمكن تعديل أمر لا وجود له، وذلك يتطلب تحقيق الإنجازات المثابرة المصحوبة بالأمل والثقة في القوة الداخلية والقدرات الكامنة.
ومن المحتمل أن عشق “دافيد وايت” للواقع الملموس والاحتفاء بالإنجاز يرجع إلى نشأته؛ فلقد عاش “دافيد وايت” حياة الطبيعة الملموس أساسها؛ فبالإضافة إلى نشأته في غرب يوركشير حيث الغابات والحقول والطبيعة الغنَّاء، ساعدت والدته الأيرلندية في تضخيم ذاك الشعور لديه من خلال ما كانت تمليه عليه من تراثها الأيرلندي. ونشأته في أحضان الطبيعة الغنَّاء والمستنقعات علَّمته كيفية الاستمتاع بكل ما هو متاح أمامه بكل السبل، إلَّا أنه يجب أيضًا ألَّا يغفل التدقيق وملاحظة كل أمر تقع عليه عينه. وفضلاً عن هذا، فإن خلفية والدته المتدينة عملت على تحفيز أن ينمو بداخله منظور مُتلزم يتَّسم بالحكمة أساسًا لجميع ردود فعله وقراراته، حتى ولو شمل هذا تغيير ديانته لأخرى أرضية شرق أسيوية. ولذاك السبب، تطغى الرؤية الفلسفية على جميع أعماله الأدبية من الشعر والنثر.
وانعكست نشأته على اختياره لدراسة تخصص لمس جوانبه، حيث التحق بجامعة بانجور Bangor University في مقاطعة ويلز بإنجلترا وحصل منها على شهادة في علوم الأحياء المائية أهَّلته لأن يصبح عالمًا في الأحياء البحرية. وبعد التخرُّج، طبَّق ما درسه، بل وقاد بعثات لدراسة الأنثروبولوجيا والتاريخ الطبيعي لجبال الإنديز والأمازون وجبال الهيمالايا. وبناء على ذلك، كانت بداية حياته تنبئ بميلاد عالم للأحياء البحرية كان لديه شغف كاف أن يحوِّل المشاهد التي غذَّت روحه وهو طفل صغير إلى واقع ملموس. بيد أنَّ مستقبله العملي الذي بدا وكأن خارطته المستقبلية قد تم رسمها فجأة أصابها نقطة تحوُّل جوهرية؛ وذلك عندما تعرَّض لحادث غرق في جزيرة “هود” الواقعة في المحيط الهادي بالقرب من دولة الإكوادور. ويحكي “وايت” أنه في تلك اللحظة التي تقريبًا فارق فيها الحياة، زاره الإلهام وقام بتغذية كتابته للشعر وحبه للحكمة.
كانت حادثة الغرق، التي عاد بعدها من عداد عالم الأموات، بمثابة منحة فتحت أمامه سُبُلًا جديدة لخلق مسار لمستقبله العملي، مستقبل لا علاقة له بدراسته وخبرته العملية. فبعد الحادث بوقت شبه قصير، استقر رأيه على الانتقال للولايات المتحدة بصورة نهائية عام 1981، بل قام بتغيير وظيفته من عالم للأحياء المائية إلى “محاضر”، وتلك مهنة تماثل ما نطلق عليه حاليًا “خبير تنمية بشرية”، والتي أتاحت له التفاعل مع شرائح أخرى ومتباينة من موظفي كبار الشركات. فمارس “ديفيد وايت” مهام مهنة جديدة، التي يحاضر فيها العاملين بالشركات، ويلهمهم بطرق جديدة لفن التعامل مع الحياة. ومن أبرز الشركات التي حاضر بها هيئة ناسا للفضاء NASA، وشركة تويوتا لتصنيع السيارات Toyota، وشركة تي أند تي لخدمات الاتصالات والمحمول T&T، وبوينج لتصنيع الطائرات Boeing، والعديد من الشركات الأخرى التي صارت فيها محاضراته بمثابة رؤى فلسفية ومصدر إلهام. واستطاع “وايت” نشر تجربته على نطاق أوسع عندما وثَّق تلك الرؤى في مؤلفات من النثر، والتي كانت بمثابة رؤى فلسفية جعلته يوصف بأنه أديب وفيلسوف معاصر.
لكنه في تلك الفترة لم يغفل الجانب الرئيسي الذي فجَّر ينابيع الإلهام بداخله، ألا وهو الشعر؛ فاحترف أيضًا كتابة الشعر وأصدر العديد من الدواوين التي عززت رؤاه الفلسفية وجعلتها تصل إلى طبقات عريضة من جمهور القرَّاء الرَّاغبين في اكتشاف الذَّات والتحليق بها في الآفاق الرحبة، وخاصة أنه كان يكتب لبعض الصحف والمجلات. ومن أبرز الأدلة على صدق تجربته وملامسة منظوره الفلسفي للجماهير العريضة هو بلوغ بعض من دواوينه لقوائم الكتب الأكثر مبيعًا، عاكسة بذلك مدى الإقبال على ما يقدمه.
ومن الموضوعات التي ناقشتها دواوينه وكذلك المحاضرات التي كانت مصدر إلهام وتدريب للعاملين بالشركات، الحب والكره والصداقة، وكذلك العلاقات الحميمية مع الآخرين. وعلى الرغم من أن تلك الموضوعات قد تبدو ليست بالجديدة، لكنه نزل لعقلية الطبقات العاملة وفهم أنه ما زالت بالفعل توجد مواقف تحتاج إلى حلول مبتكرة، والتذكير بمبادئ تتوه من التفكير في خضم زخم الحياة. وكان التجديد لديه هو صياغة جميع أعماله في إطار يغوص في أغوار علاقة الإنسان بالطبيعة التي باتت جزءاً أصيلاً من جميع أشعاره وأعماله، وكأنه يعكس حال الطفل الداخلي وخبراته السابقة داخل أعماله الأدبية. وفي الوقت نفسه، فإن موضوع اكتشاف الذَّات أحد الموضوعات المهمة التي تناقشها أعماله، وفي نفس الإطار يعلِّم الأفراد أهمية الكلمة والقدرة على خلق أحاديث بنَّاءة وتكوين شبكة من العلاقات الإنسانية، مع التشديد على أهمية العمل والتعامل مع البيئة المحيطة. لكنه كان يحذِّر من تكوين علاقات حميمية مع الآخرين، التي تكشف نقاط الضعف لدى أي فرد وتعوِّدة على أن يكون في احتياج دائم لوجود شخص ما بجواره، بطريقة قد تجعل العيش بعيدًا عنه شبه مستحيل. وعلى الرغم من إيمانه بأهمية العلاقات الإنسانية لأي فرد، والتي يعتبرها محورية في التجربة الإنسانية؛ لأن التواصل مع الآخرين أمر حيوي للنمو الشخصي وتعميق فهمه بالحياة، لكنها قد تتحوَّل إلى علاقة سامة، بغض النظر عن كونها تكشف ما يعنيه أن يكون المرء إنسانًا. فالحميمية في العلاقات تجعل الفرد ضعيفًا وهشًا ليس فقط أمام ما يريده ويرغب فيه، بل أيضًا تدفعه للاقتراب من الشعور بالخوف الذي ينتاب أي فرد عند انتظار تلبية ما يرغب فيه. والأسوأ من كل هذا، هو تعدد العلاقات الحميمية التي تزيد من هشاشة الفرد، وتجعل نقاط ضعفه بادية لجمهور أكبر. مع ملاحظة أن الاشتياق لأي علاقة حميمية يتحوَّل إلى شكل إدمان مرضي يضاعف من الهشاشة النفسية. وعلى النقيض، يؤكِّد “ديفيد وايت” أن أي جرح غائر في النفس تسببه الحميمية، من الممكن أن يتحوَّل إلى منحة. فالشعور بالألم والمعاناة يصبح السبيل للشفاء من أي إدمان، سواء أكان اشتياقًا أو هشاشة نفسية.
تغلَّب “وايت” على ما يقابله من صعوبات من خلال التعبير عن ذاته وصدق تجربته، وكانت الطبيعة خير معلِّم له، ولهذا كان يداوم على الخروج لشق الطرق في الغايات وتسلُّق الجبال؛ لمنح نفسه فرصة أكبر للتفكير وتقييم الأمور بشكل متوازن. تفاؤل “وايت” بعد خروجه من تجربة الموت منحه حياة جديدة ومده بالقدرة على أن يضاعف من زمن وجوده على وجه الأرض عندما منح نفسه روافد جديدة لحياته.
من الممكن أن يقف الزمن من أجلك: ديفيد وايت!!
بقلم : نعيمة عبد الجواد ... 17.12.2024
**المصدر : القدس العربي