
العام التسعون من حياة الفلسطيني أمر مختلف، ففي بلوغه، بل وقبل بلوغه بكثير، يكون قد اختبر العالم تسعين مرة على الأقل، وأيّ عالم هذا الذي اختبره ويختبره الآن بدمه ودم أطفاله! لذا، فإن رحلته كانت دائماً أكثر هولاً من رحلة العذاب التي عاشها «عوليس» متخبّطاً بين أمواج البحار سنوات وسنوات في طريقه إلى إيثاكا.
في آذار بعيدٍ، آذار الأرض الفلسطينية، ولِدت تمام الأكحل، وأتمّت التسعين في آذار 2025، قاطعة رحلة أسطوريّة حقّاً، ممتدة من شغف تلك الفتاة الصغيرة بالفن في وطنها الجميل فلسطين، ومدينتها المذهلة يافا، إلى منافيها، ومن قُطنة التنظيف التي طلبت منها أمّها استخدامها لتنظيف نقوش الخزانة، وخصلة الشَّعر التي قصّتها تمام الصغيرة لتصنع منها أول ريشة رسم تروي اتساع عينيها المفتون بجمال يافا وبحرها وناسها، إلى هذا العطاء الكبير الذي لم يتوقف منذ ذلك الحين إلى الآن.
لقد ولِدتُ بعد خمسة أشهر من ذلك العام الذي افتتح فيه الرّئيس جمال عبد الناصر معرض تمام الأكحل وإسماعيل شموط، في نادي الضباط في الزمالك، 1954، كما لو أن عينيّ أول ما تفتّحتا، تفتّحتا على لوحاتها ولوحات الكبير إسماعيل شموط. لكن ما لم أكن أتخيله كلما تأمّلت صورة لوحة لها أو له في صباي، أن صداقة رائعة ستجمعني بهذين الفنانين الزّوجين، وأن يتاح لي في ذات يوم أن أكون في بيتهما.
لقد سعدت دائماً خلال زياراتي لهما أن أرى مراحل تطوّر كثير من اللوحات، والتغيّرات التي تطرأ عليها أثناء الرسم، وصولاً إلى اكتمالها؛ وغالباً ما تكون اللوحة موضوعة على حاملها الخشبيّ، وقد وضع وجهاً باتجاه الحائط مغطاة بالقماش حتى لا يراها أحد.
تلك مفاجآت رائعة كانت تسحرني وأنا أرى تمام تسير نحو الحامل، وتعدّل وضعه، وترفع الغطاء عن اللوحة وتريني إياها.
بالمناسبة، قلّة هم الذين يعرضون أعمالهم على القريبين منهم قبل اكتمالها. بالنسبة لي، باعتباري هاوياً للرسم لم أفعل هذا، أما مع الكتب فلا يزعجني شيء أكثر من قراءة حتى الأقربين لسطر واحد من كتاب أكتبه قبل أن أُعلن انتهاء العمل عليه.
دائماً سعدتُ بهذا الود الكبير الذي جمعني بتمام وإسماعيل، كما سعدت بقراءة سيرتهما الفاتنة مخطوطة «اليد ترى والقلبُ يكتب»، هذه السيرة التي سحرتني، وبتفكيرنا معاً بأفضل وسيلة ترى فيه هذه السيرةُ النّور، فظلت تتنقل بيننا إلى أن نشرتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ولتَنقُّلها هذا حكاية ليس مكانها الآن، وللصّور التي ضمتها حكاية أيضاً لا تقال الآن.
بهذا يمكنني القول إنني ارتبطتّ بتمام وبإسماعيل منذ «طفولتي حتى الآن»، عنوان روايتي ما قبل الأخيرة، وفحواها، إلى الآن فعلاً.
كلنا نتنافسُ هذه الليلة على حبِّها، ولكنني محظوظ بتشريفي للتعبير عن حُبِكُم لها، وحبي لها.
كل واحدة وواحد منكم لديه الكثير ليقوله لفنانتنا الكبيرة تمام الأكحل، اليوم وكلَّ يوم، مُعلنين اعتزازنا بها وانتماءنا لوطن فيها، هي التي انتمت لكل وطن فينا، ولكل ما هو إنسانيٌّ وجميلٌ وطيبٌ وحرٌّ.. صاحبةُ القلب الكبير الذي احتضن بجماله كل هذا، واحتضنَ شعبها كلَّه على أرضه وفي منافيه، كما احتضن كلَّ قضية أرَّقت الإنسانَ في كل مكان.
أن يبلُغ الفلسطيني التسعين في زمن الحروب والمذابح والإبادة.. في زمن دام ممتد، ويبقى على قيد الحياة فهذا انتصار بحدِّ ذاته، أمّا أن يبلُغَها وهو على قيد فنِّه وجمال روحه فهذه هي المعجزة، وهو مؤمن: أن أفضل ما يمكن أن يقومَ به هو ألّا يسمح للمعارك أن تنتهي، إلّا حينما يُحدّدُ موعدَ نهايتها، ولنهايتها موعد واحد لا غير؛ هو حريةُ شعبه، وشعوبِنا كلَّها ما بين ماءين وأكثر من صحراء.
لا نستطيع هذه الليلةَ إلّا أن نشارك الكبير إسماعيل شموط لحظاتنا هذه أيضًا، فهو الحاضر المُتجدد فينا، فما كان يمكن أن تكون فلسطينُ جميلةً إلى هذا الحد، كما كتبتُ في تقديم سيرتهما التي كتبتها تمام، دون أعمال إسماعيل شموط وتمام الأكحل معًا.
وما كان يمكن لنا أن نحبّ فلسطين إلى هذا الحدّ، ونراها واضحة إلى هذا الحدّ، لو أنهما لم يُقطِّرا جمالَها ويَبعثان روحيهما رسائلَ لقلوبنا ولكلّ جهاتِ الأرض، فنًّاً جميلاً يُعيد بعْثَ الأمل، ويَهدينا لطريق حريتِنا، وقد تجلى في أعمالهما الملحمية الكبيرة التي ضمها معرضهما «سيرة ومسيرة».
منذ سبعين عاماً أطل إسماعيل شموط وتمام الأكحل ليكونا من أجمل وأروع الطيور التي بشَّرت بربيع فلسطين، في ذلك الزمن الصعب، زمن النكبة، الذي بدا فيه أنّ الخريف سيكون فصلَ الفلسطينيين الوحيد!
فنانان كبيران رائدان، سنظلّ مَديْنين لهما، وسيظلّ الفن مديناً لهما؛ فنانان بحجم وطن واضح كامل لا يَقبلُ الالتباس. ولذلك، لم يكن مستغرباً أن تعيش تمام الأكحل وإسماعيل شموط لهذا الوطن ومن أجل هذا الوطن، وأن تكون الحريةُ والفنُّ خيارهما، واتحادهما معاً روحاً واحدةً، مسيرةً واحدة، وسيرةً واحدة.
فنانان كبيران يُرتِّبان لنا ولأولادنا ولأحفادنا في كل صباح موعداً جديداً مع الشمس بكل عمل فنيّ أنجزاه.
وبعـــد:
ليست المسألة كم عاش الإنسان منّا، بل المسألة في كم قدَّم من هذا العمر لشعبه، وكم أنجزَ وترك أثراً في العالم حوله.
قلّة هم الذين تُطِلق عليهم شعوبهم صفةَ «فنّان الشعب»، و»فنانة الشعب». وفي هذا المساء، نقف لنقول إننا نتشرف بأن نكون هذا المساء في حضرة فنانة الشعب تمام الأكحل، وفنان الشعب الذي لا يغيب: إسماعيل شموط.
كلمة الاحتفال الذي أقيم بمناسبة عيد ميلاد الفنانة تمام الأكحل يوم 16 آذار الجاري، بمناسبة بلوغها التسعين.
اللوحة عمل مشترك لتمام الأكحل وإسماعيل شموط.
