
لكل شعب من الشعوب أغنياته الخالدة التي أنشدها في لحظات المقاومة والنهوض والتحدي، هذه الأغنيات ليست مجرد ألحان تعزف وكلمات تغنى، وإنما هي صرخة الحرية والكرامة، والصياغة الفنية لآلام ومعاناة الشعب، ووسيلة التعبير عن الحلم الجمعي، ومساحة من الحرية يختلقها الخيال وسط القمع والقهر، إلى أن يتحول هذا الخيال إلى حقيقة. وفي ذاكرة الشعب الإيطالي تحمل أغنية «بيلا تشاو» مكانة استثنائية، كرمز من رموز الوطنية والنضال، وبعيدا عن الحقبة التاريخية والخلفيات السياسية والتوجهات الحزبية والاجتماعية التي ارتبطت بها هذه الأغنية، هي اليوم أغنية للإيطاليين جميعاً، وبعد أن كانت رمزاً للانقسام الذي عاشته إيطاليا تحت ويلات الحرب العالمية الثانية بين الشيوعية والفاشية والنازية، صارت رمزاً للوحدة، تروي وتعرف بحكاية إيطالية خالصة تتقاطع مع العديد من حكايات الكفاح والنضال لدى الشعوب الأخرى.
«بيلا تشاو» من أشهر الأغنيات الإيطالية القديمة، ويقال إنها الأغنية الأكثير ترديداً في إيطاليا بعد النشيد الوطني الإيطالي، يغنيها الإيطاليون في احتفالاتهم الوطنية ومسيراتهم الشعبية، ويتذكرون من خلالها التضحيات في سبيل تحرر الوطن وكرامة الشعب، وروح المقاومة التي لا تموت، والحرية التي لا يوجد ما هو أغلى وأثمن منها، هي جزء من الهوية الموسيقية الإيطالية المرتبطة بالنضال، تجد فيها كل جماعة صدى قضاياها الخاصة سواء كانت سياسية أو اجتماعية.
نسخة قديمة وأخرى حديثة
كانت أغنية «بيلا تشاو» موجودة قبل أن تصبح نشيداً للمقاومة أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد ظهرت النسخة الأولى أو الأقدم منها في القرن التاسع عشر، وكانت تغنى بواسطة النساء العاملات اللاتي كن يعملن قسراً في حقول الأرز، في ظروف قاسية للغاية غير عادلة وغير إنسانية، فكن ينشدن هذه الأغنية للتعبير عن معاناتهن ورفضهن للظلم الاجتماعي والاستغلال الطبقي، وهكذا حملت الأغنية منذ القدم روح نضال الطبقة العاملة من قبل ظهور النازية والفاشية. تتحدث النسخة القديمة من الأغنية وهي بلحن وإيقاع وتركيب النسخة الأحدث نفسه، عن طبيعة العمل في حقول الأرز، ذلك العمل الشاق القسري بظهور منحنية وسط جحافل من الحشرات والناموس، وتحت سطوة رب عمل متسلط غير رحيم، لكن رغم كل هذه المعاناة، تحلم الأغنية باليوم الذي يعمل فيه الجميع بحرية وبكرامة إنسانية.
أما النسخة الأحدث والأشهر والأكثر شيوعاً من الأغنية، فقد ظهرت إبان الحرب العالمية الثانية، حيث اتخذها المقاتلون المناهضون للفاشية والنازية نشيداً لهم، بعد أن أعادوا صياغة كلماتها على الإيقاع واللحن والأسلوب نفسه، بحيث تعبر الكلمات الجديدة عن المقاومة والتضحية في سبيل الحرية، وحقوق العمال أيضاً لتصبح رمزاً من رموز اليسار الشيوعي. تغنى «بيلا تشاو» على لسان مقاوم يودع حبيبته الجميلة، وهو يلتحق بالمقاومين ليتصدى للغزاة، يعد نفسه للموت متقبلاً ذلك المصير بشجاعة وإيمان بما يقاتل من أجله، ويوصي حبيبته في حال موته كمقاوم أن تدفنه عاليا فوق الجبل تحت ظلال زهرة جميلة، ليقول كل من يمر على قبره ما أجمل تلك الزهرة، فهي زهرة المقاوم الذي مات من أجل الحرية، وكانت رايته الحمراء راية العمال.
الراية الحمراء وحقوق العمال
تمتاز الأغنية بلحنها الرشيق الرائع وإيقاعاتها اللطيفة، والاعتماد على التكرار الذي يجعلها تلتصق بالذهن وتعلق بالذاكرة، بالإضافة إلى اللمسة الشعبية التي توحي بأن هذه الموسيقى آتية من صلب الأرض وصوت الجموع. ربما يبدو للبعض أن اللحن قد يكون قريب الشبه من الألحان الروسية الفولكلورية، من حيث تكرار الكلمات والتصاعد النغمي، لكن الطابع الإيطالي هو الغالب على كل حال. تبدأ الأغنية بأنغام بطيئة هادئة ثم يتسارع الإيقاع لينطلق الغناء، وتتكرر كلمتي بيلا تشاو كثيراً طوال الأغنية، ويكون التكرار لثلاث مرات، وفي المرة الأخيرة تتكرر كلمة «تشاو» لأكثر من مرة، هذا التكرار يمثل تصاعداً يوحي بالقوة وانفجار الأمل حتى في أشد اللحظات حزناً وألماً، وقد يبدو هذا التكرار كأنه طلقات متابعة من الرصاص. تمضي الأغنية في تسلسل نغمي بسيط لكنه مؤثر، وتتراوح بين البطء والسرعة والارتفاع والانخفاض، بلحنها الجذاب وتعبيراتها الموسيقية المبهجة، رغم كلماتها الحزينة ومفردات الموت والوداع، ما جعلها أغنية رائجة حول العالم وليست مجرد نشيد شعبي إيطالي ارتبط بالمقاومة ومناهضة الفاشية وحسب، كما أنها معدة للغناء بشكل جماعي في الأساس وإن غنتها بعض الأصوات المنفردة، ومن السهل أن يشترك العامة والجموع في أدائها، بالإضافة إلى أنها لا تقدم موضوع التضحية والفداء بأسلوب مأساوي، والتفاؤل هو الطابع الغالب عليها حتى بعد الموت، إيماناً بالقيمة الأهم وهي الحرية، والراية الحمراء التي تشير إلى حقوق العمال.
ارتبطت هذه الأغنية ارتباطاً وثيقاً بالحركات الشيوعية واليسارية والعمالية داخل إيطاليا وخارجها، وتعد نشيداً يسارياً بامتياز، وتتجلى فيها الأفكار الشيوعية وربما بعض التأثيرات الروسية أيضاً. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية صارت الأغنية تغنى في المسيرات النقابية، والتجمعات والاحتفالات العمالية، وكما تتغنى الأغنية بالراية الحمراء في المقطع الأخير منها، تُرفع الراية الحمراء أيضاً أثناء غنائها في بعض التجمعات، كرمز لدماء المقاتلين والعمال الذين ضحوا من أجل تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية، بينما تتردد أنغام ذلك النشيد الشيوعي الذي يمجد المقاومة وينتصر للكرامة.
