أحدث الأخبار
الثلاثاء 11 تشرين ثاني/نوفمبر 2025
السيمفونية التاسعة: وصية بيتهوفن للبشرية!!
بقلم : مروة صلاح متولي ... 11.11.2025

تُعرف السيمفونية بأنها فن البناء الموسيقي، وقد ارتفع بيتهوفن وسما بهذا الفن إلى حيث لا يطاوله أحد، فسيمفونياته صروح ضخمة شامخة، راسخة كالقمم الشاهقة، أو كالقلاع الأثرية الحصينة، وبعضها يعد من أعاجيب الدنيا وغرائب الزمان وألغاز الفنون المليئة بالأسرار، تماماً كالسيمفونية التاسعة خاتمة أعماله في هذا اللون الموسيقي، ورسالته الأخيرة للبشرية، التي نجد فيها خلاصة تأملاته الكونية الكبرى، وما وصلت إليه حيرته الفكرية ومعاناته الوجدانية، وما أراد أن يتشبث به في نهاية المطاف، وأراد للإنسانية أن تتمسك به من بعده.
لا يشبه سماع بيتهوفن أي سماع آخر، نقبل عليه وقد تأهبنا لتلقي نفحاته الجليلة، واكتشاف ما لم نكتشفه من قبل في عبقرية حية لا تزال تفيض جمالاً، ويمكن القول أيضاً إن سماع السيمفونية التاسعة لا يشبه سماع أي مؤلف آخر من مؤلفات بيتهوفن، فهي تختلف عما سبقها من سيمفونيات ثمان، وعن أي قالب آخر وضع فيه بيتهوفن موسيقاه، ولا يقتصر الأمر على اختلافات فنية وتقنية وأسلوبية أدخلها بيتهوفن على سيمفونيته الأخيرة، أو أنه ضم الصوت البشري إلى قالب موسيقي بحت مؤلف للأوركسترا فقط، وجمع بين الكلمة والنغم في لون فني لا يقبل بحدوث مثل هذا الشيء، وإنما يعود اختلاف السيمفونية التاسعة وتميزها إلى ما هو أكبر وأكثر اتساعاً من ذلك، فالسيمفونية التاسعة عمل شديد الضخامة على المستوى الموسيقي والفكري، يمكن وصفها بالعمل الكوني الشامل الذي يجمع الأرض بالسماء ويصل بين البشر والإله ويفند الوجود بأكمله.
هنا تحدث بيتهوفن
في السيمفونية التاسعة نستمع إلى الغناء، وإلى ما اختاره بيتهوفن من أبيات قصيدة «أنشودة الفرح» لشاعر الألمان الخالد شيللر، الذي تطلع يوماً إلى السماء وقال: «خلف هذه النجوم رب رحيم». لكننا قبل أن نستمع إلى غناء هذه القصيدة، تصل إلى آذاننا كلمات كتبها بيتهوفن بنفسه، يلقيها التينور إلقاءً ملحناً قبل انطلاق الكورال، ويقول: «فلندع تلك الأنغام يا أصدقائي، ولنغن معاً ألحاناً أكثر بهجةً وإشراقاً، ولنمجد الفرح». بهذه الكلمات تحدث إلينا بيتهوفن، وأودع سيمفونيته كلمات لطالما تأثر بها وحفظها في قلبه، فوضع كلمات شيللر في الحركة الرابعة التي تختتم السيمفونية لتلتحم بموسيقاه إلى الأبد، ولتتردد هذه الكلمات الخالدة وتنبعث مع الموسيقى عبر الآماد والآفاق. لا نستمع إلى القصيدة بأكملها في السيمفونية لأنها قصيدة طويلة، وإنما نستمع إلى نسخة هي من إعداد بيتهوفن، أي أننا نتلقى كلمات شيللر من خلال بيتهوفن وما لامس روحه من أبيات، ونورد هنا ترجمة حسين فوزي للأبيات المغناة في السيمفونية: «يا جذوة الفرح.. أيها القبس الإلهي الجميل.. يا بنت وادي الهناء.. إنا لنَرِدُ قدسك نتلظى بنشوة حميّاك.. يا بنت ماء السماء.. يا أيها الفرح.. ضُم شمل النازحين ومن فرقتهم صروف الحدثان.. فالناس تحت جناحك كلهم إخوان أيها الفرح العلوي.. فليحتضن البشر بعضهم بعضاً.. وهذه قُبلة أرسلها للناس جميعاً.. أيها الملايين اسجدوا لفاطر السموات.. خلقكم ثم سواكم.. وميدي أيتها الأرض أمام ربك.. إنا نسأله الرحمة والغفران».
لم يخاطبنا بيتهوفن من خلال الموسيقى وحسب، وإنما خاطبنا ببضع كلمات من عنده، وأسمعنا أبيات شيللر المجيدة، وجمع لأول مرة بين الغناء والموسيقى في السيمفونية، والمعروف أن الغناء يجتمع مع الأوركسترا في قوالب موسيقية أخرى عديدة، لكن السيمفونية تكون مؤلفة للأوركسترا فقط. غيّر بيتهوفن قواعد السيمفونية، وهو سيد هذا الفن ومولاه بلا منازع، لكن ما فعله بيتهوفن لم يحول السيمفونية إلى شيء آخر، بل هي سيمفونية السيمفونيات، والعمل الفني الجبار في تاريخ الإبداع الإنساني. تتكون السيمفونية التاسعة من 4 حركات، ويستغرق عزفها ما يزيد على الساعة، أما الأوركستراسيون فقد أعده بيتهوفن لأوركسترا كبيرة بمجموعات الآلات الأساسية المعروفة، من وتريات وهوائيات خشبية، ونحاسيات وآلات إيقاعية، وتتطلب هذه السيمفونية كورالاً ضخماً وأربع أصوات فردية، أو ما يعرف بالرباعي الصوتي المكون من صوت الباريتون والتينور من الرجال، وصوت السوبرانو والكونترألطو من النساء.
مع القدر من جديد
في الحركة الأولى نكون مع تناول جديد لفكرة القدر التي لطالما شغلت هذا الموسيقار العبقري، وخصص لها سيمفونية كاملة هي السيمفونية الخامسة، بما لها من عظمة وخلود، هنا نجد البشرية المهزومة الضعيفة المنسحقة أمام القدر، أو الكفاح الإنساني المستميت في مواجهة قوة جبارة، محاولات متكررة، فشل وسقوط وتراجع، ثم المحاولة من جديد، نجد الحذر والتردد، والحيرة والتشتت، ونجد أيضاً التكاتف والتعاضد. تسير الحركة الأولى على وتيرة سريعة إلى حد ما، وتبدأ بجملة موسيقية تتكرر مرتين ثم تنطلق في المرة الثالثة نحو تطور جديد يؤدي إلى ذروة مرتفعة، جاءت الحركة في شكلها التقليدي، حيث تعرض الفكرة الموسيقية الأولى والثانية، ثم التفاعل بينهما والتطور الحادث نتيجة هذا التفاعل. يكون هناك الكثير من التصاعد والتراجع، كأنها محاولات النهوض المتكررة، تحت سطوة ما تواجهه البشرية من تحديات الحياة وألغاز الوجود، وجبروت الزمن والطبيعة، والموت كنهاية حتمية مأساوية وعبثية الفرار منه، وتساؤلات المجهول وصراع البشر في ما بينهم. تلعب الهوائيات الخشبية، خصوصاً الفلوت دوراً بارزاً في هذه الحركة، حيث تعبر عن الجانب الإنساني برقته وضعفه أمام القوة القاهرة، وتعبر في الوقت نفسه عن رقي الإنسانية والنفحة الإلهية في البشر، والنزعة الملائكية التي تصارع النزعة الشيطانية، كما لو أن عزف هذه المجموعة من الآلات يقدم الدليل والحجة على أن البشرية تستحق النجاة والحرية والانتصار على أقدارها. تمتد الحركة الأولى إلى ما يقرب من 15 دقيقة، هي رحلة طويلة تخوض فيها البشرية صراعاً محتوماً وتتقلب وسط الأهوال والأقدار.
بعد ملحمة الحركة الأولى تتنفس البشرية الصعداء في الحركة الثانية، تسري الحياة في الأنغام على أروع ما يكون، وتسطع شمس الموسيقى في حركة سريعة حيوية ذات موضوع خفيف، هذه الحركة تمثل الإسكرتسو في السيمفونية وقد جاءت مبكراً في غير موضعها، حيث جرت العادة أن يأتي الإسكرتسو بعد الأداجيو، أو الحركة البطيئة، لكن بيتهوفن كسيد عظيم يقرر ما يشاء، بدّل الأعراف وغيّر القواعد، وأبدع أعظم سيمفونية على وجه الأرض. هنا حققت البشرية القوة وحصلت على الحرية، فنجد الأنغام شديدة الحيوية، والإيقاعات واثقة بلا خوف ولا تردد، ونجد القوة الداخلية التي تنبعث بفضل الشعور بالحرية، تبدو البشرية في حال أفضل من حالها في الحركة الأولى بكل تأكيد، لكننا نشعر بشيء ما ينقصها، أو أنها تبحث عن شيء ما بعد أن نعمت بالقوة وتنسمت هواء الحرية، وصار هناك متسع أمام العقل لكي يفكر ويبحث ويتأمل. ضربات التيمباني تميز هذه الحركة، حيث تدخل من حين إلى آخر دون أن تشتبك مع لحن معين، كأنها تتعمد كسر اللحن وخلق بعض التنافر، ربما من أجل الإيحاء بالنزق والحركة العشوائية في كل اتجاه وعدم التنظيم. ينساب اللحن دون صراعات وصدامات الحركة الأولى، ونستمع إلى ثيمات متعددة جميلة وعبارات ميلودية جذابة، وتدفق نغمي مستمر على إيقاع رشيق.
الحب بعد القوة والحرية
في الحركة الثالثة تصل البشرية إلى مبتغاها وتعثر على ما كان ينقصها وتبحث عنه، إنه الحب، ولأن الحب لا يتحقق بشكل سليم إلا بعد القوة والحرية، جعل بيتهوفن الأداجيو يأتي بعد الإسكرتسو. تبدأ الحركة الثالثة البطيئة بداية حالمة هادئة بعزف الوتريات والهوائيات الخشبية، ثم نستمع إلى الثيمة الرئيسية في الحركة، وهي من أجمل الثيمات الموسيقية المعبرة عن الحب. تنتهي الحركة مكللة بزهو الحب، ونستعد للدخول في الحركة الرابعة خاتمة السيمفونية، حيث يوجد الكورال والرباعي الصوتي، وحيث تتجلى مجموعة أخرى من ملامح عبقرية بيتهوفن. الحركة الرابعة هي أطول حركات السيمفونية، تمتد إلى ما يزيد على عشرين دقيقة، تبدأ بداية صاخبة بعزف النحاسيات والتيمباني والكونتراباص، وتعود ثيمة الحركة الأولى مرة أخرى لتعزف هنا بشكل غير مكتمل. بعد مواجهة القدر وتحقيق القوة والحصول على الحرية، وبعد العثور على الحب، يتحقق الفرح وتكتمل سعادة البشرية ويتم معنى الوجود، لكن ما هو الفرح المرجو هنا، إنه الفرح بالسلام والتآخي بين جميع البشر، والشعور بالسكينة والرحمة التي تتنزل من السماء، وإيمان البشر بخالقهم الرحيم.
تمتلئ الحركة بالأنغام والأصوات كما لو أن البشرية تتلاحم متقاربة الأجساد متشابكة الأذرع، وكأنما تحققت أمنية شيللر، بأن يصير الجميع إخوة في هذا العالم. تجمع مقدمة الحركة بين مشاعر مختلفة، لكننا نلاحظ أن الأنغام صارت أكثر حكمة ونضجاً، تقدم الأوبوا إرهاصات لثيمة الفرح الشهيرة، وهي المقطع الأكثر شيوعاً وانتشاراً من هذا الجزء من أنشودة الفرح في السيمفونية التاسعة، كأننا نستمع إليها بشكل متفرق مبعثر، أو إلى لمحات خاطفة منها، قبل أن نستمع إليها بشكل كامل في لحنها النهائي.
لحظة صمت وظفها بيتهوفن في هذا العمل، صارت لحظة خالدة ينتظرها السامع كما لو كانت نغماً، هي تلك اللحظة التي تسبق انطلاق عزف ثيمة الفرح مكتملة للمرة الأولى، حيث نستمع إلى ذلك اللحن البديع الرائع بغنائيته الكامنة في الموسيقى ذاتها حتى من قبل أن تنضم إليه الكلمات، نسمعه لأول مرة خافتاً هادئاً جليلاً على أوتار الكونتراباص، ثم تردد معه الوتريات ويتصاعد الصوت تدريجياً ويعلو بانضمام النحاسيات والباصون ومن بعدهما الأوركسترا بالكامل إلى اللحن. ينتهي عزف الثيمة ويغني التينور كلمات بيتهوفن في البداية، ثم ينطلق غناء أنشودة الفرح بواسطة الكورال والرباعي الصوتي، ونستمع من جديد إلى الثيمة ذاتها، التي استمعنا إليها موسيقياً فقط قبل لحظات، وقد انضم إليها الصوت البشري والكلمات المغناة. نستمتع بكل صوت من الأصوات الأربعة وبصوت الكورال المهيب، ونشعر بأننا أمام أمواج من الأصوات البشرية المتداخلة والمتقاطعة والمتلاحقة تتوقف عند ذروة عظيمة. بعد ذلك ننتقل إلى تنويع جديد على الثيمة، مع صوت البيكولو والمثلث، ما يهدئ الأجواء ويمنح الموسيقى طابعاً أكثر لطفاً ورشاقة. يغني التينور بقية أبيات القصيدة والكورال من خلفه، ثم يصمت الغناء قليلاً لتنطلق الموسيقى منفردة في عاصفة من التعبير، بعدها يعود مطلع ثيمة الفرح متقطعاً ويغنيه الكورال من جديد، ثم نجد الغناء وقد أضفى عليه بيتهوفن لمسة دينية وروحاً خاشعة، هنا يحضر الإلهي والمقدس والروحاني، هنا لحظة اكتمال الفرح الحقيقي ومعنى الوجود، هنا تهنأ البشرية بالتحامها مع الحقيقة العليا، تناجي خالقها وتسعد تحت رحمته. يغني الكورال كما لو أنه يصلي، كما لو أن البشرية جمعاء تصلي صلاة واحدة خاشعة، ويرتفع الغناء حتى يكاد يطال السماء. يعود الرباعي الصوتي للغناء بعد هذه الصلاة الخاشعة، ويتسارع غناء الكورال بشدة وتنتهي السيمفونية بذروة هائلة، لتترك سامعها غارقاً في بحر من التأملات في موسيقى أهداها إلينا بيتهوفن بينما كان محروماً من سماعها، وفرح تمناه شيللر للبشرية التي عانقها بحرارة ولم تمنحه سوى لسعة الجليد.

1