أحدث الأخبار
الأربعاء 04 كانون أول/ديسمبر 2024
الستره عند البدو!!
بقلم : زهير بن عياد ... 21.04.2013

السترة *..
الستر في اللغة يمتاز بعدة معان كلها تفيد الحياء الخفاء أو الغطاء , السترة: وسط المحاور التقليدية هي واسطة العقد في المجتمع البدوي , ما فتئوا يخطبون ودها , وفي يقينهم ان السترة - وهي ضد الفضيحة والعار والسبة - هي مطلبا ضروريا وسط مجتمع ذو ترسيخ إرثي لا يغفر الهفوة او الزلة , وتتوارث الاجيال كل سوء يرتكب جيلا يتلو جيل , ولهذا يطمع ويحرص البدوي على السترة في المال والاهل والنفس والبيت والولد والعرض والارض والعشيرة , ويذود عن ذلك ويصون بكل ما اوتي من جهد وقوة , فتراه دائما يسأل الله السترة , بل انه بلا ارادية تجد لسانه دائم الذكر بقول " سترك يا الله – يا الله تسترها دنيا واخره – يا ستار يا الله – سترك الظافي يا الله – يا رب تستر علينا " فالبدوي يتمنى بذلك ان تستر عيوبه ومحارمه وتخفى وتستتر عن الاعين , ويكون بين ما لا يحب والخلق ستار , ويحرص اشد الحرص على ذلك فتجد من اقوالهم وامثالهم قولهم ( لاقيه – أي صادفه – جعان ولا تلاقيه عريان ) يقصدون أن أستر على نفسك وألبس النظيف لأن نظيرك او من يقابلك يرى منك ذلك فتكن مستورا , فالأهم والأولى ظاهرك , اما باطنك فانت تستر على نفسك وتتحكم بها , فلا يدري احدهم هل انت جائع ام شبع ...
في العرف - قديما وحديثا - شكلت السترة كما اسلفت فرضا لدى البدوي , وهي بالمناسبة صفة عظيمة رائعة محببه يحبها الله , ومن اسماءه سبحانه وتعالى الستار فكم ستر على عباده ووقاهم الفضيحة , وحول السترة قصصا لا تحصى وتحصر بشيء في هذه البوادي وأيم الله , وكم من افراد وعشائر تقدمت بهم عجلة الحياة وسلكوا سبل النجاة بسبب وفضل الله اولا والسترة ثانيا , وكم هي عظيمة هذه السترة فهي التي تدفع الشخص والفرد في المجتمع لإتقاء المحارم والعيوب , فتحفظ الأخلاق والمكارم , ويخاف الشخص ان يقدم على كريه مكروه لئلا يفضح , وليبقى مستورا ...
السترة دخلت القاموس اللغوي للبدو في اتجاهات عدة , اسوق لكم بعض الامثلة الحية حول ذلك , لترى بأم عينيك كيف تداخلت السترة والاخلاق الحميدة بحياتهم , فمن ذلك قول احدهم "مستورة والحمدلله " يشير بذلك الى حالته المادية , وكذلك إذا غضب احدهم من امر او استغرب وتفاجأ فأنه يقول " يا ساتر " , عبارة اخرى قولهم "بسترة وستيرة " , أي سنقوم بذلك بكل هدوء دون ان يشعر بنا احد , يقولون لنساءهم إن حلّ بهم غريب " استري حالك او انستري او تستّري " والسترة في اللغة هنا تعني غطاء , فالبدوي هنا اما يشير لها بأن تتستر بغطاء ما , او انه يقصد ان تذهب ناحية , ومن لهجتهم إن أمروا احدا بالاختباء او التخفي قولهم " انستر" , وكلمة "استره " هي من المرادفات الشهيرة عندهم للمفردات - ظب واخزن واخفي - فيقال حتى لابسط الامور كالمال مثلا " استر لي هوذل في جيبك " , واقوالهم “استر عليه” أي موّه وعمي الخبر عنه , ومما لقبوا الليل ايضا " ابو ساتر " ... وذي صلة من ذلك عبارة تتقولها العوام ومما لاحظته اندثار هذه العبارة على نطاق واسع , وقلة ما زالت تتلفظه وتتمسك به خاصة عجائز القوم , وهي عبارة الاستغاثة الشهيرة " يا تستور او تستور يا ابو فلان " , وهنا انتقل بكم الى قول الشيخ صالح بن سعد السحيمي وفتواه بهذا القول نصا وحرفا , يقول عن هذا التلفظ : ( هو شرك اكبر تخرج من حظيرة الاسلام واذا عرفت المعنى اتضح لك المقصود , تستور : هو المقصود دعاء الجن من دون الله ... تستور يا فلان اي اغثنا ايها الجني , يعني اذا اصابهم شيء او نزلوا منزلا او يعني فلان اصيب بحسد مثلا او بنحو ذلك كالعين ...... وهذا نظير قول مشركي قريش ومن قبلهم : نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ......)انتهى
وكما ذكر فإن اجدادنا رسموا هالة من القداسة حول السترة وترجموا ذلك واقعا وصدقا , وحكاياتهم حول ذلك تتجاوز الافاق , اكتفي هنا بايراد قصة او اثنتين تلبيان المراد وفيهما نوعا من الاستيفاء للدرس :
الاولى ) ذكروا ان الشيخ عودة ابو تاية ( وهي قصة ما زالت تجري على السنة شيباننا ) شيخ قبيلة الحويطات المشهور صنع وليمة كبيرة وضخمة , فمرت به جماعة اثناء ذلك , ونزلوا عنده , وكان المجلس يعج بالحضور من كبار الشيوخ والوجهاء , فاحتادت هذه الجماعة النازلة ناحية تنتظر الطعام والزاد مع المنتظرين , حتى وصل , ومدت الموائد وتشابكت بها الايدي ,وكان الشيخ عودة على عادة البدو يصول ويجول يحثهم على التزود وعدم النهوض عن الاكل حتى يكتفون , واثناء ذلك عاين ببصيرته وذكاءه أن بالجماعة الاخيرة امرا مريب رابه , ودون شعورا منهم أدرك أن بهم أمرأة متنكرة بزي رجل وما نزلت معهم إلا لشدة الجوع وفاقة الزاد ,وعلى الفور امر خدامه وابناءه بإطفاء النيران والاضواء في الديوان , وحلف عليهم أن يأكلوا براحتهم ويستمرون في ذلك , فعل كل ذلك لتأخذ المرأة راحتها في الاكل ولا تتعجل , فانظر الى زنة عقله وزينه ورحمته وعطفه وادراكه وفهمه الذي حدا به ليستر على المرأة وبذات الوقت يكرمها ...
الثانية ) وقبل ان انتقل بكم للقصة اشير بملحوظة الى ان البدو قديما وانيا كوحدة اجتماعية صلبة , من اهم امورهم كان سترة المرأة والستر عليها , الى جنب استقبال الضيف والقيام بواجبه على اتم وجه طلبا للسترة وخوفا من العار , وهي سنة قديمة في العرب حدت ببعضهم كالحطيئة الى التماس القرى لضيفه بذبح ابنه , واستمرارية وسيرورة لذلك فما زال الشيبان يحدثوننا الاحاديث الطوال حول ذلك مجملها انه اذا نزل ضيفا ببيتا ما , وكان الرجل غائبا عن البيت فإن جيرانه واقرباءه ينهون للقيام بالواجب , وعلى قول الشيبان " اللي بيغيب ربعه بيسدوا عنه " , والقصة القريبة من ذلك تروى على ذمة من قال ومن اسند له الحديث بأن جماعة من شيوخ بدو النقب الاولين قديما ارادوا السياحة في البلاد فاتجهوا شرقا , وعندما نفذ زادهم , اخذوا يلتمسون القرى في النواحي , فأشار عليهم احدهم بأنهم جماعة كبيرة وبيوت الصحراء شاظفة فقيرة لا طاقة لها بإطعام عشرة نفر ,فأتفقوا ان ينقسموا لثلاثة اقسام , كل قسم يتجه بفناءه لخيمة ما علّ الله ان يرزقهم ما يسد رمقهم , وتداعوا ان يجتمعوا اذا حلّ العصر قريبا من رجما معروف , وفعلا اتجه كل فريقا لحال سبيله بحثا عن رمق حياة او لقمة يجدونها او يجاد عليهم بها , فئتان او قسمان منهما ساقتهما الاقدار والارزاق والقسمة فوجدا زادا واكرمهما اهل الخيام ايما اكرام , اما الفئة الثالثة وبهم الشيخ عيد فاتجهوا الى ناحية كل من بها يتضور جوعا , فاستقبلوا خيمة في تلك النواحي والنزل - ومن العرف انذاك ان لا تتجاوز البيوت وتتنقل بينها فأول بيتا يواليك فانزل به - والتي لم يكن راعي البيت ( الرجل ) حاضرا ,فخرجت لهم المرأة وحلفت واقسمت لهم بأعاظم الايمان انها لا تملك الزاد لتقريهم وتطعمهم وتضيفهم وهي تتضرع لهم بأن يستروا عليها ولا يفضحوها , فهدأ الشيخ عيد من روعها ولم يحرجها وطمأنها أن هذا حال الدنيا , وسألها وجماعته : هل عندك عكة ( زق صغير يوضع به السمن ) ؟ فردت بالايجاب, فقالوا : احضريها , فاحترضها لهم , فقام الشيخ عيد ورفقته ومسحوا ايديهم بالعكة ودهنوا مرافقهم بها كذلك , وعادوا لملاقاة صحبهم , وعندما التقوا اخذوا يتسائلون عن الكرم الذي وجدوه , وكلا منهم يثني ويمدح مضيفيه , فقالوا : هيه ( للنداء ) يا شيخ عيد حدثنا ! فقال : نعم ,الحمدلله وجدنا امرأة فلان واكرمتنا وعلامة ذلك الدهن على ايدينا. – فانظر رحمك الله الى اهمية الستر عندهم وقارن بنفسك عن زماننا الحاضر بين هذا الشيخ النبيل ورفاقه وجماعاتنا اليوم , تجد العجاب , فليتنا نتشبه بهم إن التشبه بالكرام فلاح - ..
وفي تسلسل القصة على ما يرويه شيباننا ان زوج المرأة صاحبة الضيوف , رجع بيته , فلاحظ أثرا لنزلاء نزلوا بيته بغيابه , فاستفسر عن الامر وسأل زوجته , هل حضر احدا بغيابي , فذكرت له القصة ووصفت له الشيخ هيئة وفعلا , فعرف الرجل بدهاءه وفروسية الصحراء ومسرى الاخبار بها , ان الموصوف والمقصود والمراد هو الشيخ عيد نبيل الذكر وخيّره , وادراك بحكمته وفطنته انه اراد ان يستره بفعلته حين طلب العكة.. فقام الى غنمه ووسم شاة بوسية عشيرة الشيخ عيد , واخبر قومه ان الشاة وما تلد لعيد الفلاني , تمر على الحادثة سنين وتنسى , فيمر الشيخ عيد من ذات المكان , فنهض زوج المرأة وذبح له واكرمه واقراه , وعندما همّ الشيخ عيد بالذهاب , كم تفاجأ عندما ساق له الزوج رعية كبيرة من الاغنام , فسأله الشيخ عيد عن ذلك ولما يهب له تلك الاغنام , فذكره الزوج بفعله القديم وحسناه معه , فقام الشيخ عيد وقسّم الرعية لثلاثة اقساما – على ما يحضرني إن لم أخطأ - , قسم للمرأة المعزبة , وقسما لفقارى المسلمين , وقسما له ... ومن إنشادهم في هذه القصة ما قاله الزوج او بعض ما قال :
يا عيد واجبك حق وصايب – حق على اللي يفهمون المواجيب
وسمتها بحظور كل القرايب – ذبيحتك يا منبع الجود والطيب
لو ما ردنا ما علينا غصايب – لا شك ظيف البيت له حق ونصيب
جملتنا يا شوق ظافي الذوايب – وهيذي عادة الطيّب بشكر المعازيب
يفداك من هو ظاريا للسبايب – ليا غاب تلحق المعزب كلاليب
جربت شينات السنين النوايب – والجود بالماجود ما به تكاذيب
نشيل لك البيظا بروس الجذايب – حيثك من اللي يقرعون المصاعيب
ختاما هي مواقف بطولية دفعت بها الصحراء الى باحات الصفاء والنقاء لتؤصل لمعاني انسانية راقية ترجمت في التكافل والتعاضد وحفظ المعروف , رغم ضنك الحياة وشحها وقسوتها , لم يكن العوز والحاجة لتجعلهم ينكفأون على انفسهم , او تجعل المحتاج يحط قدره عند بني قومه , بل كان الجميع يشعرون بالذات الانسانية كوحدة تتصلب امام اعاصير عاتية , فشكلوا لوحات اخوية عاطفية رائعة وكثيرة تناولنا واحدة اعلاه , وقد كذب المستشرقون والمتسيرقون حين قالوا , ان البدوي كان لا يتكلم الا بالزند والسلاح , ولا يطال لقمته إلا بفوهة النار , قد يكون ذلك , وقد لا يكون ,وإن كان فالامر لا يعمم .

*عن كتاب دراسات في الثقافة البدوية في النقب زهير بن عياد – كاتب عربي من النقب..
1