أحدث الأخبار
الأربعاء 04 كانون أول/ديسمبر 2024
شهوة الملائكة" لزكي الصدير:نصوص للوجع..قصائد للذة!!
بقلم : سعدية مفرح ... 04.06.2013

من بينِ كلّ كتلِ اللّحمِ المتقاطرةِ دماً بينَ أصابعي لم أخترْ سوى جسدي، وكأنّه الأملُ الوحيدُ الذي أذهبُ إليهِ قصداً أو سهواً كلّما أصابني عطلٌ بسيطٌ في الذاكرة، عطلٌ بسيطٌ يمنحني البدءَ من جديد، عطلٌ بسيطٌ جداً يعيدني لأكتشفني من خلالِه! عطلٌ بسيطٌ للغايةِ يتفرغُ معي بشكلٍ كاملٍ لتشكيلِ قوالبي، وإعادة رسمي في أرضٍ أحبّها وتخونني! إنّه جسدي الذي لا أراهُ إلا من خلالِ شهواتي ورغائبي ونزواتي’.
هكذا يبدأ النص الأول في كتاب شهوة الملائكة للشاعر زكي الصدير ليقدم هوية الكتاب وهوية الشاعر معا بشكل إبداعي موجز ومثير، ولكنه أيضا حاد وموجع.
في ‘شهوة الملائكة’ يعيد الشاعر السعودي الشاب إنتاج نصه الشعري بطريقة توحي أنه في مرحلة التحضير النهائي لنص شعري نهائي لن يكتمل ، ككل النصوص الشعرية الكبرى للشعراء الكبار.. وككل المشروعات التي تليق لأن تكون مآلات الأحلام العظيمة. نحن إذاً بصدد مشروع شعري كبير وحساس وموغل في الرهافة والإنسانية..
تنتظم نصوص الكتاب الصادر عن دار مسعى للنشر والتوزيع هذا العام، في ثلاثة فصول هي؛’الرغائب: للشهوة رداء غير اللغة’، ‘انكفاءات الجسد: ربما عتبة لذروة أخرى’، و’ظلمة الروح: لجسد لم أجربه بعد’، وقبلها نص بعنوان ‘شهوة الملائكة’.
تشبث بالشعرية وحدها
وتتراوح نصوص الكتاب في عدد أبياتها وأشطرها بلا مبالاة من قبل الشاعر المتشبث بالشعرية وحدها على حساب الأشكال والأحجام حتى لنجد قصيدة عنوانها ‘صلِّ معي’ عبارة عن بيت فريد يتيم فقط، يقول فيه:
‘ماذا أقولُ إذا جاءتْ تعاتبني:
قد شاقني الوجدُ ياقلبي فصلِّ معي؟!’
وزكي الصدير الذي سبق وأن أصدر ثلاثة كتب قبل هذا الكتاب هي؛’حالة بنفسج’، و’جنيات شومان’، و’حانة’ ينظر له باعتباره أحد أهم الأصوات الشعرية المكونة للحالة الإبداعية الراهنة في المملكة العربية السعودية خاصة وأنه يخوض في سياق تجاربه الكتابية غمار التجريب بجرأة لافتة ولكنها في الوقت نفسه محسوبة منطلقا من خلال النص الجريء الذي يكتبه الى مناطق شاسعة وإشكاليات على صعيد الشكل والمضمون أيضا. نقرأ مثلا في سياق ذلك نصا بعنوان ‘تهجّاهم’ يقول فيه:
‘أنتم تريدونَ الحياةَ
وهم بقاؤكَ إن أردتَ ظلالَكَ الأخرى
تهجّاهم على أملٍ
تعلّم رسمَ لوحتِكَ الأخيرةِ فوقَ غيمتِهِم
توسّد حلمَكَ الآتي على أكتافهِم
وانزل إليهِم في الشوارعِ
قبلَ أنْ ترتاحَ من عدّ الرصاصاتِ الأخيرةِ في جيوبِكَ واختبرهم
إنهم قدَرٌ وشيكُ الظلِّ قدْ ينسى تعاليمَ الرياح!’
شفافية جارحة ودامية
وإذا كانت ‘حالة الربيع العربي’ من الحالات التي هومت فوقها نصوص الصدير في شفافية مطلقة وإن كانت جارحة ودامية في بعض المواقع فإنها لم تكن الحالة الوحيدة بل لعلها كانت هامشا أنيقا لإطار من التداعيات السياسية والإجتماعية والدينية والعاطفية أيضا. وهي حالات لم تقيد الشاعر عن الانطلاق خارج حدود الشعرية الراهنة.. فحاول في كل نص أن يجرب شيئا ما وإن كان ذلك أحيانا يتم بشكل صادم أو نافر أو حتى متوهم من قبل المتلقي.
ورغم أن الشاعر لم يبين تاريخ كتابته للنصوص في الأجزاء الثلاثة التي تكون منها الكتاب إلا أن من الواضح جدا أن المناخ النفسي الذي سيطر على الجزئين الأولين مختلف تماما عن مناخات الجزء الثالث والذي جاء في معظمه سرديا تلمس اللغة الشعرية من دون أن تكون هي لغته الأساسية.. لكن ذلك لا يمنع من الإشارة الى أن هذا الجزء (الثالث) ، بالرغم من افتقاده لعنصر الدهشة في غالبيته التي هي روح الشعر كما أراها كان مناسبا جدا لأن يصدر في كتاب منفصل ومستقل ويمكن قراءته حينها بمعزل عن أجواء الكتاب العامة..
روح تراثية.. ونظرة مستقبلية
والصدير يكسر رتابة الشكل في كتابة بشكل يدعو للإثارة والإعجاب، وهو يراوح بين أشكال الشعر المعروفة وفقا لتضاريس النصوص النفسية من دون الاهتمام بأي تصنيفات سائدة أصبح الشعراء الشباب في الأونة الأخيرة للأسف أسرى لها بطريقة تدعو للرثاء والأسف. يكتب الصدير في نص عنوانه ‘معارضة’ وهو عنوان دال شكليا:
سلامٌ أيّها الحجرُ
سلمتَ ويخسرُ القدرُ
جرتْ في كفّكَ الأيامُ
تعركُها فتنكسرُ
فما ظفرتْ بميلادٍ
ولا نزلتْ بها السِّوَرُ
فلا بوركتَ من قدرٍ
إذا ما الشعب قدْ قَدَروا!
وبعد هذا النص تماما يكتب نصا آخر عنوانه ‘محمد عبدو يشدو مفتتحاً ذاكرة الطين؛والله ما مثلك بهالدنيا بلد’، وهو ايضا عنوان دال تمدد على مدى سطرين في تناص شعري غنائي فاتن ، ويفتتح النص هكذا:
‘وتنسى العجوزةُ أختُ العجوزِ وسيدةُ الأرضِ بعضَ الحكايا بحارتنا
ثمّ تسألني:
أينَ ما جئتني؟! أين قهوتُنا؟!
أينَ حرزُ الصّباحِ؟ وأينَ التمورُ التي تنتشي بينَنا؟
أينَ كوبُ الحليبِ، وكسرةُ خبزي، وحبةُ هالي الشهيّ هنا؟
ها! أينني.. أينها.. أينه.. أيننا؟…’.
وهكذا تمضي نصوص الكتاب الحاشد بكل تجليات ما يسميه النقاد بالقصيدة العمودية المكتوبة وفقا لتفعيلات الخليل بن أحمد، وقصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر، بل أن النصوص أحيانا تتعدى الحالة الشعرية لتتمثل في حالات كتابية أخرى كالقصة القصيرة والسرد المتداعي الحر والمشاهد المسرحية والأغنيات أيضا. وقد راقني ذلك السلوك الحر ليس في مناخات الكتاب ككل وحسب بل أيضا في مناخات كل قصيدة على حده أحيانا، حتى بدا لي زكي على هذا الصعيد جريئا الى حد يبشر بشاعر سينجز للشعرية العربية ما يمكن أن يساهم في تجديد الأشكال فيها تحديدا، خاصة إذا استمر في رحلته الاستكشافية نحو المستقبل من دون أن يفقد صلته التراثية الحاضرة بقوة في مجمل النصوص التي كتبها في هذا الكتاب وما سبقه من كتب أيضا.
أناقة لفظية
وزكي الصدير الذي أتوقع أن يكون خلال فترة قصيرة جدا من الكتابة والنشر والانتشار أحد أهم الأصوات الشعرية في المنطقة العربية ككل ينجح غالبا في الاحتفاظ بنفسه الشعري العام وهو يعالج موضوعاته الساسية كما يعالج موضوعاته العاطفية ، ثم وهو يتحدث عن عذوبة الحبيبة كما يتحدث عن أوجاع الوطن، مغلفا بأناقة لفظية لافتة وخفة روح تظهر وتختفي بين النصوص.. يقول في نص عنوانه ‘شقاوة الورد’ على سبيل المثال:
‘تلك الصبيةُ
تلكَ الفتاةُ الشقيّةُ
توجعني كلّما قررَتْ رسمَ فستانِها عارياً مثلَ وجهِ الحقيقة
منتصراً للزهورِ الأنيقة
منشغلاً باكتمالِ الموسيقى
تمشّطُ هاجسَها كلّ يومٍ
وتنظرُ في باعةِ الوردِ أن يرسموا خطأً- وجهَها فوقَ كتفِ الحديقة!’.
والكتاب كله قطعة إبداعية فاتنة تشاكل الجمال وتستفز عشاقه من خلال أدوات شتى أجاد الشاعر التعامل مع معظمها ووظفها التوظيف المناسب وهو يخوض في قضاياه الإشكالية الصعبة وخطابه المر للوطن … بل للأوطان جميعا.

1