
انطلق العدّ العكسي لعودة المبعوث الأميركي توماس برّاك إلى بيروت، المرتقبة في مطلع الأسبوع المقبل، والمنتظر أن يتلقّى فيها الجواب اللبناني الرسمي على ورقة إملاءات واشنطن لـ"حلّ الصراع بين لبنان وإسرائيل"، الذي لم ينضج بعد، حتى مساء أمس الجمعة، في ظلّ تباينات على مستوى مواقف الرئاسات اللبنانية الثلاث (الجمهورية والحكومة والبرلمان)، وثوابت يضعها حزب الله، وتهديدات تُمارَس على المسؤولين اللبنانيين لقبول الإملاءات، سواء دبلوماسياً، أو بالنار، مع تصعيد الاحتلال اعتداءاته، أبرزها طاول مساء الخميس سيارة في منطقة خلدة، جنوبي بيروت. وتتخذ الشروط الأميركية شكل إملاءات وتهديدات لا تراعي أدنى معايير الدبلوماسية ولا احترام السيادة، وتُصاغ في ورقة غير معلنة لكن بنودها صارت معروفة ومتداولة في الإعلام، وتفيد لغتها بأنها عبارة عن أوامر فجّة ومهل زمنية صارمة مرفقة بتهويل يوحي باحتمال شنّ عدوان إسرائيلي جديد على لبنان في حال لم يوافق على الإملاءات من دون أي تعديلات وبمهل زمنية قصيرة.
ويصعب فك الارتباط بين ورقة الإملاءات الأميركية التي تحظى منطقياً بموافقة إسرائيلية لكونها تلبي كافة شروط تل أبيب، وبين تصريحات متكررة لمسؤولين إسرائيليين في الأيام الماضية عن استعجالهم تطبيع العلاقات مع لبنان (وسورية) وإدخال البلدين في نادي الاتفاقات الإبراهيمية. وكانت وزارة الخزانة الأميركية قد فرضت، مساء الخميس، عقوبات على سبعة مسؤولين كبار وكيان واحد مرتبط بالمؤسسة المالية الخاضعة لسيطرة حزب الله القرض الحسن، التي أدرجها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية على قائمة العقوبات عام 2007. وبحسب الخزانة الأميركية، فإن هؤلاء المسؤولين هم نعمة أحمد جميل، عيسى حسن قصير، سامر حسن فواز، عماد محمد بيز، علي محمد كرنيب، علي أحمد كريشت، محمد سليمان بدير.
ضغوط دبلوماسية على لبنان
وبحسب معلومات "العربي الجديد"، فإن "هناك ضغوطاً دبلوماسية يتعرّض لها لبنان، ورسائل تصل إلى الرئيس جوزاف عون بضرورة اغتنام الفرص والسير باتجاه الحل الدبلوماسي، لأن أي طريق آخر سيؤدي لعودة الحرب والتصعيد العسكري، وهو أمر ليس في صالح لبنان، مع تعويل أيضاً على حنكة وخبرة رئيس البرلمان نبيه بري لإقناع حزب الله بالموافقة على المقترحات لتجنيب البلاد السيناريو الأسوأ"، علماً أن بري يُنظر إليه باعتباره يحمل صوت حزب الله سياسياً في كل حوار مع الخارج. ووفق المعلومات، فإن "عدداً من السفراء دخلوا على خطّ الاتصالات في محاولة لدعم لبنان والتأكيد على الوقوف إلى جانبه، وضرورة الحفاظ على الاستقرار والأمن في البلاد، والسير بالحل الدبلوماسي وبالثوابت التي تدعمها الدول العربية على صعيد حصر السلاح بيد الدولة والقيام بالإصلاحات والحفاظ على أفضل العلاقات مع المحيط العربي، وغيرها، وهذه مسارات أساسية لمساعدة لبنان للنهوض اقتصادياً وإعادة الاعمار". وفي هذا السياق يندرج وصول مستشار وزير الخارجية السعودي يزيد بن فرحان إلى بيروت في وقت متزامن مع جولة برّاك في لبنان.
وتبعاً للمعلومات، فإن "النقاط العالقة هي تلك المرتبطة بالسلاح بالدرجة الأولى والآلية التنفيذية والمهل الزمنية، إذ إن هناك إصراراً من جانب حزب الله على أن الموضوع شأن داخلي ويُبحث عبر استراتيجية وطنية أمنية، رافضاً أيضاً تحديد المهل، معترضاً أيضاً على صيغة الانسحاب التدريجي، ذلك أنه لا ثقة بالعدو، من هنا يريد ضمانات بضرورة الانسحاب الإسرائيلي من المناطق التي لا يزال يحتلها قبل البحث بأي شيء آخر". من جانبها، قالت مصادر رسمية لبنانية لـ"العربي الجديد"، إن "المسألة باتت في خواتيمها، والرد سيرتكز على أن لبنان يلتزم بحصر السلاح في مقابل الضغط على إسرائيل للانسحاب من كافة النقاط التي تحتلها ووقف اعتداءاتها".
نزع سلاح حزب الله يفجّر خلافاً داخل الحكومة اللبنانية
وفي 19 يونيو/ حزيران الماضي، حطّ برّاك في بيروت متولياً الملف اللبناني مؤقتاً بدلاً من المبعوثة مورغان أورتاغوس التي عُرفت بدورها بلغتها غير الدبلوماسية المليئة بالتهديدات والاستفزاز. وحرص برّاك منذ وصوله على استخدام لغة دبلوماسية هادئة، غير هجومية، بعكس سالفته أورتاغوس، هو ذو الأصول اللبنانية، لم يملِ في البداية الشروط أو الأوامر علناً، كما فعلت أورتاغوس يوم أعلنت من مقرّ الرئاسة اللبنانية في فبراير/ شباط الماضي أن حزب الله لن يكون مشاركاً في الحكومة، لكنه حمل إلى المسؤولين اللبنانيين مقترحات صارمة، وخريطة طريق ملغّمة أيضاً بمهلٍ مبطّنة، لاستعجال الحلّ، بالتزامن مع ضغوط بالنار يمارسها جيش الاحتلال بتصعيد عملياته خارج جنوبي نهر الليطاني والتلويح بتوسعة الاعتداءات في حال لم يُحسم ملف سلاح حزب الله.
في الأيام الماضية، بدأت تخرج إلى العلن تفاصيل مقترحات برّاك، من دون نشر أي صيغة رسمية عن الجانبين اللبناني والأميركي، ما ترك الباب مفتوحاً أمام تسريب الكثير من المعلومات والمصادر، منها ما تحدّث عن مهلة ستّة أشهر أو في حلول نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، لسحب سلاح حزب الله، وغيرها نفى ذكر أي مدة زمنية، لكن المحسوم أنّ الوافد الأميركي "طلب" من المسؤولين اللبنانيين "إنجاز" الملف سريعاً. تبعاً لذلك، شكّل لبنان لجنة تمثل رئيس الجمهورية جوزاف عون، ورئيس الحكومة نواف سلام، ورئيس البرلمان نبيه بري، لصياغة ردّ موحّد على ورقة برّاك، يحوز أولاً على "رضى" حزب الله الذي يتشاور بهذا الشأن مع بري، ويحيطه بملاحظاته، واضعاً التحرّك الأميركي في إطار الإملاءات والضغوط لجعل الحزب يستسلم، الأمر الذي لن يحصل، بحسب تأكيد الأمين العام للحزب نعيم قاسم، وتشديده في مواقفه الأخيرة على عدم قبول "أن نسلّم سلاحنا للعدو، ولا نقبل بأن يهدّدنا أحد بأن نتنازل، لأننا لن نتنازل عن حقّنا".
مصادر لـ"رويترز": حزب الله خلص إلى أن ترسانة الأسلحة أصبحت عبئاً
وعلى الطريقة اللبنانية، يحاول المسؤولون في بيروت إيجاد العبارات والكلمات المناسبة للردّ على المقترح الأميركي من دون الظهور بمظهر المستسلم، وللحفاظ في الوقت نفسه على المصلحة الوطنية والاستقرار الداخلي، وهم يعلمون أن الحلّ لوقف الاعتداءات الإسرائيلية وإبعاد احتمال توسيع العدوان لن يكون إلا بالطرق الدبلوماسية وبالرعاية الأميركية، وليس بعيداً ما قاله وزير خارجية لبنان يوسف رجّي عن أن "الأميركيين يحبوننا، نذهب للبكاء لديهم لإخراج الإسرائيليين فهم الوحيدون عملياً القادرون على التأثير على الإسرائيليين، ولكنّ هناك شروطاً إذا نفذت سيساعدوننا، ولبنان ليس بموقع القوة كي يرفض". ومن أبرز ما سُرِّب عن الورقة الأميركية البند المتعلق بسحب سلاح حزب الله والفصائل المسلحة كافة، لبنانية وغير لبنانية، والبدء بسحب السلاح من شمال نهر الليطاني لتبدأ أميركا في المقابل بالضغط على إسرائيل للانسحاب من النقاط الخمس التي تحتلها، من دون أي ضمانات لحصول ذلك. ومن ثم تأتي الخطوات المتبادلة على صعيد إطلاق الأسرى ووقف الاعتداءات وتوفير المساعدات المالية لإعادة الإعمار.
وتقترح ورقة برّاك أيضاً تحسين العلاقات اللبنانية السورية، والعمل على ضبط الحدود ومنع التهريب وترسيم الحدود بين البلدين، مع ضرورة حلّ مسألة مزارع شبعا التي يعتبر الأميركيون أنها سورية وليست لبنانية، إلى جانب الإصلاحات المالية ومكافحة اقتصاد الكاش الذي يعتمد عليه حزب الله، والعمل على إقفال المؤسسات المالية التابعة للحزب ويتقدمها "القرض الحسن" الذي يُنظر إليه بمثابة المصرف الرسمي لحزب الله. ويتفق المسؤولون اللبنانيون على العناوين العريضة للرد على الورقة الأميركية، لكنهم يريدون ضمانات ترتبط بوقف الاعتداءات الإسرائيلية والانسحاب من النقاط الخمس، فيما يتمسّك حزب الله بموقفه لناحية ضرورة وقف الاعتداءات والانسحاب من النقاط الخمس أولاً قبل البحث بأي موضوع آخر، كما يصرّ على أن ملف السلاح يجب أن يبحث داخلياً وضمن استراتيجية سبق أن تحدث عنها الرئيس جوزاف عون.
في هذا الإطار، اعتبر مصدر نيابي في حزب الله، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "حزب الله لديه كامل الثقة بالمشاورات التي يقوم بها رئيس البرلمان نبيه بري، وهو لديه ملاحظات أيضاً وأولويات لا يمكن التراجع عنها، وتصبّ بالمصلحة الوطنية العليا"، مشيراً إلى أن "الورقة الأميركية أشبه بالإملاءات على لبنان، وتريد أميركا تحقيقها لأهداف إسرائيلية، فتمليها على الدولة اللبنانية وتضغط عليها للرضوخ، وهذا ما لا يمكن القبول به، فلا ثقة بالأميركيين وبالدور الذي يلعبونه". ولفت المصدر أيضاً إلى أن "حزب الله لن يرضى بتسليم سلاحه للعدو، ولا بمهل زمنية مشروطة دولياً، فهذا شأن داخلي ويبحث به لبنانياً ضمن استراتيجية وطنية، وكل التهديدات بالتصعيد والحرب لا تخيفنا وإن كنا لا نريد الحرب"، مشيراً إلى أن "هناك حقوقاً لن نتخلّى عنها، وعلى الدولة اللبنانية الدفاع عنها أيضاً وعدم التنازل، والمطلوب ضمانات أكيدة بوقف الاعتداءات الإسرائيلية والانسحاب من النقاط المحتلة".
في المقابل، قدمت وكالة رويترز في تقرير مطول، أمس الجمعة، أجواء مختلفة، فنقلت عن ثلاثة مصادر مطلعة قولها إن حزب الله بدأ مراجعة استراتيجية كبرى بعد الحرب المدمرة مع إسرائيل تتضمن بحث تقليص دوره بصفة جماعة مسلحة دون تسليم سلاحه بالكامل. وقال مصدر أمني في المنطقة ومسؤول لبناني رفيع المستوى لـ"رويترز"، إن هناك أيضاً شكوكاً بشأن حجم الدعم الذي يمكن أن تقدمه إيران التي تخرج الآن من حرب ضروس مع إسرائيل. وذكر مسؤول كبير آخر مطلع على المداولات الداخلية لحزب الله، أن الحزب يجري مناقشات سرية بشأن خطواته التالية. وأضاف المسؤول، الذي طلب عدم نشر اسمه، أن لجاناً صغيرة تجتمع شخصياً أو عن بعد لمناقشة مسائل، مثل هيكل الجماعة القيادي ودورها السياسي وعملها الاجتماعي والتنموي وأسلحتها.
وذكر المسؤول ومصدران آخران مطلعان على المناقشات أن حزب الله خلص إلى أن ترسانة الأسلحة التي جمعها لردع إسرائيل ومنعها من مهاجمة لبنان أصبحت عبئاً. وقال المسؤول "كان لدى حزب الله فائض قوة، كل تلك القوة تحولت إلى نقطة نقمة"، موضحاً أن حزب الله "ليس انتحارياً". وقالت المصادر إن حزب الله يدرس الآن تسليم بعض الأسلحة التي يمتلكها في مناطق أخرى من البلاد، لا سيما الصواريخ والطائرات المسيرة التي تعتبر أكبر تهديد لإسرائيل، بشرط انسحابها من الجنوب ووقف هجماتها. لكن المصادر قالت إن الجماعة لن تسلم ترسانتها بالكامل. وقال حزب الله إنه يعتزم على سبيل المثال الاحتفاظ بأسلحة خفيفة وصواريخ مضادة للدبابات باعتبارها وسيلة لصد أي هجمات في المستقبل.
الحزب يناقش السلاح
ورداً على تقرير "رويترز"، قال مصدر نيابي في حزب الله لـ"العربي الجديد"، إن "موضوع السلاح هو مدار نقاش في الحزب وسبق أن تعاون مع الدولة اللبنانية بشأنه في جنوب الليطاني وجرت مباحثات حوله على صعيد الأسلحة الثقيلة والمسيّرات ولكن الأولوية اليوم لانسحاب إسرائيل ووقف اعتداءاتها". وأشار المصدر إلى أن "السلاح دوره في مواجهة الاحتلال، ولا يمكن تسليم السلاح كله طالما أن التهديد موجود، ولا ضمانات بأن لا تعاود إسرائيل اعتداءاتها". ولفت إلى أن "مشاورات سبق أن بدأت مع الرئيس جوزاف عون حول مسألة حصر السلاح بيد الدولة، وكان هناك تنويه بطريقة تعاطي عون مع الملف، واعتباره شأناً داخلياً يُبحث به في إطار استراتيجية وطنية، من هنا لا يمكن قبول أي ضغوطات خارجية أميركية إسرائيلية هدفها فقط إنهاء المقاومة". وبحسب معلومات خاصة لـ"العربي الجديد"، فإن "مشاورات كانت قائمة حول السلاح، قبل الحرب الإسرائيلية على إيران، وكان هناك بحث من قبل حزب الله بأن يرسل بعض الأسلحة الثقيلة والصواريخ البالستية إلى إيران، لكن الموضوع بقي عالقاً ولم يعاود البحث به نظراً للتطورات، واليوم هناك بحث جدي حول مسألة تسليم السلاح تدريجياً، بيد أن المسألة لم تحسم بعد في حزب الله".
في السياق، رأى منسّق الحكومة اللبنانية لدى قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل) سابقاً العميد منير شحادة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "لبنان والمقاومة بشكل خاص تتعرّض لضغوطات سواء دبلوماسية أو بالنار، للخضوع ونزع السلاح وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ورأينا سلسلة الغارات التي ضربت بلدات جنوبية، وكذلك عملية الاغتيال التي حصلت في خلدة (أول من أمس الخميس)، وهذه لها رسالة واضحة ودلالات بأن الاغتيالات لا تقتصر على الجنوب بل تشمل حتى العاصمة بيروت ومداخلها، فلا منطقة محيّدة، مع الإشارة إلى أن التصعيد تزامن مع نشر أخبار صحافية تتحدث عن رفض حزب الله بنود ورقة برّاك". وأشار شحادة إلى أن "موضوع سلاح حزب الله معقّد، وقد يؤدي لانفجار في الداخل اللبناني، وهذا الأمر متنبّه له الرئيس جوزاف عون، وقد أوصل رسالة بذلك إلى الأميركيين أكثر من مرّة".
ولفت إلى أن "أميركا تتحدث مع لبنان بأسلوب دبلوماسي يُفهم منه بأنه أوامر، فهي تريد فرض شروطها بطريقة دبلوماسية، وربما تستخدم اللغة الحادة في الغرف المغلقة، لكنها تحرص في الإعلام على عدم الغوص في التفاصيل والتركيز على عناوين عريضة حول الاستقرار وحصر السلاح". وأعرب شحادة عن اعتقاده بأن حزب الله لن يسير بموضوع الخطوات المتبادلة، وذلك تبعاً لمواقف معلنة من الأمين العام نعيم قاسم، الذي كرّر أكثر من مرة أنه يجب ألا يطلب أحد أي شيء منّا قبل الانسحاب الإسرائيلي أولاً ووقف الخروقات وتسليم الأسرى، ليأتي الحديث بعدها بالاستراتيجية الدفاعية. بدوره، يقول الأستاذ في التاريخ السياسي والعلاقات الدولية زكريا الغول لـ"العربي الجديد"، إن "الدولة اللبنانية ما زالت عاجزة عن اتخاذ قرار سيادي موحّد في هذا الشأن بسبب الانقسام الداخلي، أما الحزب، فهو أمام مفترق: إما أن ينخرط في مشروع الدولة ويتخلى عن سلاحه، أو أن يستمر في التموضع خارج الدولة، ما يعني استمرار العزلة والانهيار"، مشيراً إلى أن "الظروف الضاغطة داخلياً وخارجياً قد تدفعه إلى مراجعة موقعه، وإن ببطء".
*المصدر : العربي الجديد

