أحدث الأخبار
السبت 23 آب/أغسطس 2025
ماذا تفعل حين تجد نفسك داخل القطيع؟!
بقلم : د. فيصل القاسم ... 23.08.2025

في صباحٍ من شتاء عام 1929، كان جوزيف كينيدي، رجل الأعمال والمستثمر اللامع ووالد الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي، يسير في أحد شوارع نيويورك متوجهاً إلى مكتبه في وول ستريت. توقف عند زاوية، حيث اعتاد أن يلمّع حذاءه لدى فتى صغير كان يعمل ماسح أحذية. كان الجو بارداً، والناس يتحدثون عن الأسهم والفرص السريعة، فقد كانت البورصة آنذاك حديث الجميع.
وبينما ينحني الصبي على حذاء كينيدي، قال بثقة: «هل اشتريت أسهم شركة (فورد)؟ سترتفع كثيراً هذا الأسبوع. الجميع يشترونها!» تجمّد كينيدي في مكانه. لم يضحك. لم يناقش. لم يسأله «من أين لك هذا؟». بل نظر للأفق وقال لنفسه: «إذا كان حتى ماسح الأحذية يتحدث عن الأسهم، فالفقاعة قد بلغت ذروتها. هذا السوق لم يعد يحكمه المنطق، بل الحماسة العمياء. لقد دخل القطيع… وحان وقت الخروج».
في اليوم التالي، بدأ كينيدي يبيع كل ممتلكاته في السوق. انسحب بهدوء…بعد أسابيع فقط، انهار كل شيء. الثلاثاء الأسود، أكتوبر 1929، أطاح بالملايين. البنوك أُغلقت. رجال الأعمال ألقوا بأنفسهم من نوافذ الأبراج. والاقتصاد الأمريكي دخل نفقاً مظلماً. لكن كينيدي نجا. نجا لأنه فهم الإشارة: حين يبدأ الجهلاء بتوزيع النصائح، فهذا ليس وقت التعلم… بل وقت الهروب.
واليوم من البورصة إلى مواقع التواصل: نفس القطيع، لكن بثياب جديدة. تخيّل الآن أن ماسح الأحذية عاد، لكن هذه المرة ليس على الرصيف… بل على منصة إكس، أو فيسبوك، أو تيك توك. يضع صورة بروفايل لرمز ناري أو راية سياسية أو دينية أو زعيم عشيرة أو طائفة، ويبدأ بإلقاء المحاضرات: عن الاقتصاد، وعن الوطن والسياسة، وعن الدين، وعنك أنت. ينصبّ نفسه مرجعاً، ويصرخ: «أنت خائن!»، «أنت عميل!»، «أنت قوّاد» «أنت لا تفهم»، «أنت مرتزق». ويرد عليه مئات الغوغاء بقلوبٍ ونيران وتصفيق وتأييد وإعجابات.
هل تضحك؟ لا تفعل. فقد تحوّلت مواقع التواصل اليوم إلى نسخة حديثة من وول ستريت قبل الانهيار: نفس الحماسة، نفس الغوغائية، نفس القطيع … لكن هذه المرة الخسارة ليست مالك، بل وعيك، وقيمك، وأعصابك ورصانتك وإنسانيتك. هذا ليس نقاشاً… هذه حظيرة رقمية. لا تتوهم أن هذه المنصات ما زالت أماكن للتعبير أو الحوار. لقد أصبحت منصات تشهير. ساحات تصفية لا ساحات فكر. مزابل رقمية، يقف على رؤوسها من يصرخ أكثر، لا من يفهم أو يفكر بشكل أعمق. صار «المثقف» هو من لديه أكبر عدد من المتابعين، لا أكبر عدد من الكتب والمقالات والأفكار والبحوث والدراسات. وصار الصوت الأعلى والأكثر جهلاً وانحطاطاً هو الذي يُصدق، لا الصوت الأصدق. وصار الحق يُحسب بعدد الإعجابات الصادرة من الجهلة، لا بقوة الحجة والمنطق والفهم.
**لا تتوهم أن هذه المنصات ما زالت أماكن للتعبير أو الحوار. لقد أصبحت منصات تشهير. ساحات تصفية لا ساحات فكر. مزابل رقمية، يقف على رؤوسها من يصرخ أكثر
لقد صار الغوغاء جيلاً كاملاً من ماسحي الأحذية… على الإنترنت. وكي لا نظلم ماسح الأحذية أو نحط من قدره، فهو يبقى إنساناً يحصل على رزقه بعرق جبينه، وربما لم تساعده الظروف أن يجد عملاً أكثر ربحاً وقيمة،فالفرق كبير بينه وبين عجيان وصبيان ورداحات المواقع. ماسح الأحذية في زمن كينيدي، كان طفلاً بسيطاً، يكرر ما يسمعه. أما الغوغاء اليوم، فهم جهلة مغرورون، لا يكتفون بتكرار السخافة والبذاءة، بل يصنعونها، ويهاجمون كل من لا يتبناها.
في زمن كينيدي، كانت النصيحة من ماسح أحذية مجرد إنذار.
أما اليوم، فالنصائح تأتيك من آلاف «المؤثرين» بين قوسين طبعاً، ومعها شتائم، وتخوين، وتكفير، وتهديد، وابتزاز رخيص ومفضوح لا يسعك إلا أن تضحك عليه وتحزن في وقت واحد. تضحك لأن هذه الشريحة المبتذلة صارت تتصدر المنصات وتقدم نفسها على أنها تقود الرأي العام، وتحزن لأن هناك الملايين من أمثالهم ينساقون وراءه ويصفقون لهم، ويتصرفون كالكلاب المسعورة والثيران الهائجة التي ستصطدم عاجلاً أو آجلاً بالحائط القاتل. صدق الفيلسوف الكندي آلان دونو حين أسماه «نظام التفاهة» الذي جعل حثالات العالم يتصدرون المشهد بأرخص أنواع الأفكار والابتذال والسفاهة والانحطاط، ويأخذون العالم معهم إلى الحضيض.
ولا نبالغ إذا قلنا إن فقاعة الوعي أخطر من فقاعة المال. في البورصة، كان دخول الغوغاء يعني انهيار المال. أما في الإعلام الرقمي، فدخول الغوغاء يعني انهيار المعنى، وتشوّه الحقيقة وانتشار السفاهة والتفاهة وموت العقل. نعم، البعض ما زال يحاول «الإصلاح من الداخل». يكتب، ويشرح، ويناقش، ويستميت. لكن لنكن واقعيين: هل تنظّف المجاري وأنت واقف وسطها؟ هل تنقذ الكرامة وأنت تتوسلها في مساحة يقودها الأراذل والتافهون المأفونون؟
لا أحد يعالج الطاعون بالتعايش معه. ولا أحد يُقنع قطيعاً هائجاً بأن يتريث ويقرأ. والسؤال المحيّر اليوم: هل تفعل ما فعله كنيدي يا ترى؟ أم إن الأثير الإلكتروني فيه أيضاً أعداد لا يُستهان بها من العقول والمتابعين المحترمين؟ هل الخروج من هذا الفضاء العظيم هو الحل؟ لا شك أن من يقود النقاش في أحيان كثيرة هم الجهلة والرعاع، وصحيح أيضاً أن الحشود لا تريد فهماً بل إعداماً، لكن أليس من الخطأ أن تترك البضاعة الفاسدة تطرد البضاعة الجيدة؟ البعض يدعوك إلى إطفاء الموبايل والخروج فوراً من هذا المستنقع الآسن، ليس جبناً، بل حكمة، ليس هروباً، بل إنقاذ للعقل والضمير، ففي الأسواق، حسب رأيهم، الغوغاء يُسقطون المال. وفي الإعلام الغوغاء يُسقطون المعنى. وفي كلتا الحالتين، من بقي في الزحام خاسر. لهذا يطالبونكم بالخروج قبل أن تفقدوا نفوسكم، لا فقط فلوسكم.
أنتم ما رأيكم يا رعاكم الله؟

1