ليست الهبّة المندلعة هذه الأيام في فلسطين خارجة عن السياق الذي تمر به القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة، حيث حصلت عدّة اشتباكات بين فلسطينيين وجنود إسرائيليين في أكثر من بقعة، إضافة إلى أن الاعتداءات الإسرائيلية لم تنقطع، فقط تواترت شدّتها بين وقت وآخر.
ولا يعود «الفضل» في هذه الهبّة الواسعة للاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة وحسب، بل هي واقع لم يعرف الفلسطينيون غيره، إلا أن للهبّة الحالية والمتصاعدة، وغير المسبوقة منذ الانتفاضة الثانية، إرهاصات أتت على دفعات، ويمكن للآخذين بمسألة التراكم الكمّي وما يؤول إليه من تغيير نوعي أن يدركوا، وربّما يتنبأوا، بهبّة نوعيّة كهذه، وقد تكون هي ذاتها إحدى الدفعات المتراكمة التي قد تؤدي لاحقاً إلى انتفاضة ستعرف «أعداءها» بشكل أكثر وضوحاً.
سأضيف إلى ذلك عاملاً جديداً يزيد الشباب الفلسطينيين إصراراً على مواصلة هبّتهم والتشبّث بها والحؤول دون اغتيالها، هو الدور الواضح الذي اتخذته السلطة الفلسطينية وتحديداً رئيسها أبو مازن منذ الانتفاضة الثانية إلى اليوم، وهو أن تتكرّس لا كعامل وسيط بين الفلسطينيين وبين الجيش والدولة الإسرائيليين فحسب، بل تجاوزت الحد الأنى (نزولاً بطبيعة الحال) لتوقعات معارضيها، فتتخطى الوساطة بين الطرفين إلى حارس للمحتل من المشاغبين المتهوّرين. وليس التنسيق الأمني مع الاحتلال ولا هاجس أبو مازن المعبّر عنه بمناسبة وبدونها، أنه لن يسمح بانتفاضة ثالثة، إلا أمثلة أكثر حضوراً.
والسلطة بدورها هذا قد تكون المثال الأفضل لما كتبه فرانز فانون في «معذّبو الأرض» عن الفئة من الشعب الخارجه منه والمشاركة له في إحدى مراحل نضالاته (حركة فتح) والقائدة له، ولاحقاً الحاكمة له بتوظيف مباشر من المستعمِر الذي قاتلته مرّة.
من هنا يمكن القول بأن الهبّة التي أطلقها الفلسطينيون بأنفسهم، بمبادرة شعبية وبدفعات متصاعدة، والأهم بشمولية، بدأت قبل أيام في القدس العاصمة، ثم امتدّت بشكل أكسبها زخماً وطنياً إلى الأراضي المحتلة عام 48، أي إلى عمق الكيان الإسرائيلي، وفي أهلنا هناك رمزيّة وطنيّة سيكون أي حراك فلسطيني ناقصاً بدونهم، ثم إلى غزّة بعمليّات للمقاومة، ثم رويداً رويداً إلى مناطق أخرى في الضفة، انّ هبّة كهذه لا تملك السلطة الفلسطينية أن توقفها، بل أبعد من ذلك، لن تسلم منها أصلاً. لكن بكل الأحوال، إن حصل وتوقّفت الهبّة عند حدّ ما، فستكون تراكماً جديداً (ونوعياً) سيؤدي يوماً إلى التغيير النوعي الذي سيمكن تسميته بانتفاضة، وليس هنالك ما يقول بأنها ستكتفي بمواجهة الصهاينة بالأصالة، بل ستمرّ أولاً على «الصهاينة بالوكالة».
ليس المستعمِر هو المسؤول مثلاً عن الخدمات الملزم بتأمينها كأي قوّة احتلال. نحن هنا بشكل أكثر تفصيلاً ضمن علاقة مستعمَر/وسيط/مستعمِر. الوسيط هنا اقتصادياً وسياسياً وأمنياً هو سلطة أبو مازن، وللوسيط هنا وجود وظيفي سيكون حتماً لصالح القوي (المستعمِر) وأي خلل في ذلك سيحلّ المستعمِر هذا الوسيط، ويجد أكفأ منه.
الجيّد في أبو مازن أنه لا يرى حرجاً في التصريح بكل ذلك، وأنه بذلك يسهّل المهمّة على الشباب في تحديد الجهات المتضرّرة من انتفاضتهم. لنأخذها حتى بالمطلق، ضمن أرض وشعب محتلَّين، ألن يتضرّر المحتل من انتفاضة هذا الشعب؟ ما الذي سيخسره الشعب بانتفاضته (غير القيد)؟ وإن كانت هنالك جهة في هذا الشعب متضرّرة، أين نصنّفها إذن؟
لذلك يمكن ببساطة التنبؤ بأن إحدى الدفعات في سلسلة الهبّات هذه، أو دفعتها الأكثر نضوجاً أي الانتفاضة، لن تستهدف الاحتلال الإسرائيلي وحسب، بل ستضطر للمرور عبر خط الدفاع الأول له، وهو كما أسلفت خط دفاع اقتصادي وسياسي وأمني، إلا أن الاحتكاك المباشر يكون مع رجال الأمن، وهم شباب فلسطينيون موظّفون لدى السلطة، ومعظمهم من أبناء حركة فتح ويعتبرون أبو مازن قائدهم تنظيمياً، وليس فقط مؤمّن رواتبهم، وهؤلاء إن لم يحدّدوا انحيازهم من الآن إلى الشعب في مواجهة السلطة، متخلّين عن أبو مازن، قد يجدون أنفسهم في مواجهة مع أهاليهم، مدافعين عن رواتبهم، وهم فعلياً يدافعون عن سلطة تدافع بدورها عن الاحتلال في وجه المنتفضين.
وهذه الذريعة الأخيرة، أي تحويل الانتفاضة التي لا مناص من مرورها بهذه السلطة ومواجهتها، تحويلها إلى اقتتال داخلي بين المنتفضين وهم من عموم الشعب، وبين رجال أمن السلطة وهم من عموم الشعب كذلك. هذه الحجة الوحيدة الآن لأبو مازن كي يثبت للفلسطينيين صحّة ما يذهب إليه في أن الانتفاضة لن تكون لصالح شعبنا.
السلطة الفلسطينية لن تستطيع منع الانتفاضة!!
بقلم : سليم البيك ... 12.07.2014
كاتب فلسطيني