بقلم : د. فيصل القاسم ... 1.10.06
"إن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم المغتصبة أهم وأولى بكثير، من التفاوض على استعادة القدس"، رغم أهميتها الدينية والروحية بالنسبة للفلسطينيين خاصة والمسلمين عامة. هكذا تحدث الدكتور رمضان شلــّح الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية في إحدى مقابلاته قبل فترة. ولا أعتقد أن شلــّح كان يقلل من أهمية القدس بالنسبة للنضال الفلسطيني، لكنه وجد أن القضايا والحقوق الإنسانية يجب أن تحظى بالأولوية كي يكون أصحابها مستعدين لاحقاً للذود عن المقدسات. ولا أظن أن أحداً يستطيع أن يزايد على الدكتور شلــّح في غيرته على عقيدته ومقدساته.
كم تمنيت أن يكون لدى العرب تلك الواقعية التي عبر عنها الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، التي لا تكتفي بإطلاق الشعارات الإسلامية والعقائدية للاستهلاك العام، بل تطبقها على أرض الواقع من خلال نضالات حقيقية،مما يجعلها أكثر مصداقية في طروحاتها الإسلامية. أقول هذا الكلام بمناسبة الضجات الكبرى التي يثيرها العرب كلما تعرض أحد الكتاب أو رجال الدين الغربيين لعقيدتهم الإسلامية، فيقيمون الدنيا ولا يقعدونها، كما لو أنهم حلوا كل مشاكلهم الدنيوية، ولم يبق لديهم سوى التفرغ لمقارعة المتطاولين على مقدساتهم.
لا أريد طبعاً أن انتقد تلك الحمية والغيرة الروحية العظيمة لدى العرب والمسلمين في العالم على دينهم ورسلهم، خاصة وأن بعضهم أحب من المال والأهل والوالد والولد والنفس، وهذا مقياس صدق الإيمان، لكنني كم أتمنى لو أنهم يوازنون ويوفقون بين "نخوتهم" العقدية وبين تصديهم للطغيان والاستبداد والديكتاتورية الداخلية والخارجية التي يرزحون تحتها من جاكرتا إلى بغداد. جميل جداً أن يثور المسلم عندما يحاول البعض النيل من عقيدته، لكنه جميل أيضاً أن يكون لديه نفس القدر من النخوة والاستبسال في الدفاع عن كرامته ولقمة عيشه وحياته وأوطانه وأبناء جلدته في وجه الأنظمة والقوى التي تسومه يومياً شتى أنواع العذاب والانتهاكات. وإلا لاتهمه البعض بالانفصام والكذب والنفاق.
لماذا يثور الملايين ويخرجون إلى الشوارع لاستنكار رسم كاريكاتوري رسمه رسام دنماركي سخيف، ولا يحركون ساكناً ضد كل أنواع القهر والإذلال والقمع ودوس الكرامات التي يتعرضون لها على أيدي أجهزة التنكيل الرسمية في بلادهم؟ لا شك أن الدفاع عن كرامة العقيدة أمر جدير بكل الاحترام، لكن أليس من الغريب أن نتصدى لرسم كرتوني ولا نحس بكل صنوف الظلم والجور التي تحاصرنا داخل أوطاننا من كل حدب وصوب، كما لو أنها قدر محتوم؟
لماذا المقدسات أهم من الحقوق لدينا، يتساءل أحد الكتاب؟ "أليس لافتاً أن مقدساتنا تتقدم كثيراً في سلوكياتنا على حقوقنا، فلا نعير هذه الأخيرة الأهمية اللازمة، ولا نسعى أو نناضل من أجل تحقيقها أو استردادها؟ هل للشعائر قداسة عندنا أكثر من الحقوق الشخصية، ولماذا؟ أليس للحق في الحياة والحرية والكرامة والعيش الكريم قداسة وأهمية عندنا؟ أليس للأرض، أرض الوطن والأجداد والأحفاد، قيمة واحترام وتقدير؟".
إذا كان لكل هذه الحقوق والقيم أهمية وقيمة وتقدير، لماذا لا نشعر بالاستفزاز وبالإهانة عند استباحتها وانتهاكها من قبل الغير، أيا كان؟ لماذا للموروثات أهمية في حياتنا أكثر من المنجزات؟ "لماذا الماضي الغابر يحفّزْنا إلى التحرك أكثر من الحاضر الذي نعيش فيه؟ كاد الاستعمار ينتهي في كل أنحاء العالم إلاّ عندنا، فلماذا نطيق وطأته منذ مئات السنين ولا نناضل لإزالته عن كاهلنا كما سائر الشعوب الحرة؟
نتهم الغرب بازدواجية المعايير، وهذا طراز من النفاق، فهل كان الغرب لينجح في منافقتنا لو لم نكن نحن ننافق أنفسنا؟ أليس نفاقاً ان ندّعي الغضب عندما يجرّح أحدهم نبياً أو ولياً أو زعيماً، ولا نشعر بالخجل عندما نمارس نحن شتى أنواع الكذب والنفاق والهوان؟"
لماذا نقبل بالفاشية الصهيونية بحق أخوتنا في فلسطين ولبنان، بكل أريحية، حتى باتت أمراً عادياً نشاهدها على شاشات التلفزيون، بسلبية صارخة، من أرائكنا المريحة؟ لماذا نتعامى عما يحدث لأخوتنا في العراق المهشم على أيدي المغول الجدد وأزلامهم، ولا نصرخ على الأقل بوجهها صوتياً، بينما ننزل إلى الشوارع، ونزبد ونرغي، ونحرق الأعلام والأبنية والصور، ونهدد بابا الفاتيكان بالويل والثبور وعظائم الأمور، ونطالبه، صباح مساء، بالاعتذار، لمجرد أنه قال جملة أو جملتين بحق الدين الحنيف؟ أيهما أكثر إلحاحاً الذود عن المقدسات، التي لا يمكن أن يدنسها أو ينال منها رسم كاريكاتوري أو تعليق باباوي أجوف، أم الحقوق والأوطان المغتصبة والثروات المستباحة من قبل الطغاة المحليين والخارجيين على حد سواء؟ ألم يقدم الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية قضية اللاجئين على قضية القدس لأنها أكثر إلحاحاً وضرورة؟ ألا يقولون في أدبياتنا العامة إن "الكد على العيال أفضل من العبادة على رؤوس الجبال"، أي أن الهم المادي مقدم على الروحي، على الأقل ريثما يتحقق الأول؟ فكيف ننصر الأعظم إذا فشلنا في نصرة الأصغر؟
أليس من المضحك أن تستدعي بعض الدول العربية سفراءها لدى الفاتيكان للاحتجاج على تصريحات البابا الأخيرة، (ولو على عينك يا تاجر)، بينما لم يحدث أبداً أن استدعت سفراءها من إسرائيل للاحتجاج على الهمجية والنازية الصهيونية اليومية بحق الأشقاء الفلسطينيين؟ أي نفاق أفظع من هذا النفاق؟ لماذا نستدعي سفراءنا لدى الحبر الأعظم بسبب جملتين قالهما في محاضرة عابرة، ولم نستدع سفراءنا من تل أبيب إبان العدوان الصهيوني الذي لم يترك جسراً أو مستشفى أو مأوى للعجزة أو مدرسة أو محطة كهرباء أو إذاعة أو منارة في لبنان إلا وسواها بالأرض؟ أليس من المضحك أن الدولة الوحيدة التي استدعت سفيرها من تل أبيب احتجاجاً على البربرية الصهيونية ضد لبنان هي فنزويلا، وهي، من سخرية القدر، دولة غير إسلامية؟ هل نصدق أولئك الذين استدعوا سفراءهم من روما إذا كنا نعرف مسبقاً أنهم يتقاعسون في نصرة الأقربين؟ أليس الأقربون أولى بالمعروف في كل ثقافات الدنيا؟
لا أعتقد أن الأولياء والأنبياء الطاهرين الذين ندافع عنهم ضد المفترين الغربيين سيكونون ممتنين لنا كثيراً، إذا ما عرفوا أننا نتعامى عن الظلم والطغيان الواقع علينا وعلى أوطاننا وأخوتنا وأهلنا من الطواغيت "الوطنيين" والاستعماريين. كيف سيصدقون أننا نذود عنهم ونحن لسنا قادرين على الذود عن أبسط حقوقنا البشرية؟ متى كان العبيد والقيان سنداً للبشر كي يكونوا عوناً و نصرة للأنبياء والمرسلين؟ واعتقد أن أول ما قد يقولونه لنا هؤلاء المطهّرون: "دافعوا عن أنفسكم وعن حقوقكم أولاً قبل أن تستلوا سيوفكم الخشبية للهجوم على المفترين علينا، فلسنا بحاجة لصراخ الأذلاء والمستعبدين كي يحمينا من سهام السخفاء والقداحين! ذودوا عن مصالحكم وكراماتكم أولاً إذا كنتم صادقين!".