بقلم : رغدة العزيزي ... 21.02.2009
تغرب مثل عادتها بذات الوقت والطريقة، أشاهدها تعانق البحر و تتوحد معه كأنهما جسد واحد، أشاهد شمس بلادي متعجبة لإصرارها على الموت كل يوم غرقا، وتراودني أسئلة لا أستطيع الإجابة عنها:
هل بين البحر وشمسه، الشمس وبحرها.. قصة حب كما عبلة وعنتر أو قيس وليلى؟
أم عمق البحر ملاذاً تستريح فيه من هموم أتعبتها طوال النهار؟
يجاوبني مشهد مؤلم حين وصل باص إلى شاطئ البحر ممتلئ بنساء متشحات بالسواد فهو لباسهن المعتاد (جلباب وخمار اضافة الى جوارب سوداء أيضا) بعضهن كشفن عن الوجه، البعض الأخر بقين متحفظات، خائفات من العالم الجديد وكأن البحر شبح يريد ابتلاعهن.
كانت إحداهن مجنونة.. وربما تكون هي العاقلة بينهن عندما نزلت من الباص وركضت تعانقه، انه البحر.
اعتقدت في بادئ الامر انها تحاول الانتحار حيث ركض باقي النسوة خلفها خوفاً أن تغرق، لكن للأسف جئن متأخرات فنوار غرقت فعلا... كيف لا تغرق وهي نزلت البحر بجلبابها وحجابها، حذائها أيضا؟!
الحمد لله لم تمت نوار أخرجتها بمساعدة النسوة وانتشلناها من جنونها وجنون البحر، أجريت لها التنفس الاصطناعي ريثما يأتي الإسعاف.
خرجت نوار من المستشفى مساءً متجهة نحو الشاطئ تمشي ببطء متأملة جمال هذا المخلوق الغريب، هكذا وصفت البحر عندما قابلتها لأهنئها على السلامة، وسألتها ما الذي حدث؟ لماذا حاولت الانتحار؟
أجابت بلهفة: "لم أفكر أبدا بالانتحار! على العكس تماما: أول مرة في حياتي أحب الحياة وأرغب عيشها، ولكن لم أتوقع رؤية هذا المخلوق الغريب في حياتي".
تتابع نوار حديثها بأقل لهفة وأكثر حزناً: "قبل زيارتي هذه كانت اكبر أحلامي زيارة السوق الذي يبعد عن بيتنا بضع الكيلو مترات أو أقوم بزيارة لصديقات المقعد الدراسي الذي تركته مرغمةً، لم اتجرا أن احلم برؤية نهر فكيف أرى البحر؟!".
ألم تخافي البحر وعمقه يقولون انه غدار؟ سألتها..
قالت: "كيف يكون غدارا وهو ليس إنسانا؟! فصفة الغدر ملتصقة ببني ادم فقط "! وأضافت نوار: "بلغت من العمر 30 سنة.. أعيش في حلب.. لكني لا اعرف طرقاتها أو محلاتها التجارية! يقولون أن هناك حديقة تسمى الحديقة العامة.. اعترف أني حلمت بزيارتها والركض على مرجها، أتسلق أشجارها كما كنت افعل في الطفولة.. لكن حياتي مملوءة بالممنوعات والمحرمات مثل باقي نساء العائلة! ممنوع علي ان اخرج من البيت وحدي، هذا إن خرجت أصلا!
عندما جاء زوجي و"طلب يدي" رأيت الحرية في طريقها إلي تصهر قضبان سجني الفولاذية وتمسك يدي.. تخرجني من الموت إلى الحياة.. ولم أدرك أن أصابعها تغرس في قلبي مرة واحدة مثل الخناجر.. وكأنني كنت أعيش وهما لا حلما! خرجت من سجن لأقابل آخر! لم يختلف أي شيء: قضبان حديدية وجدران صلبة بالإضافة لنوافذ صغيرة تمنع سفر أحلامي!
الشيء الوحيد المتغير أني كنت امتلك غشاء بكارتي.. والآن فقدته! وكأنني أعيش في بيت أهلي كي أحافظ عليه لزوج المستقبل! فهو من يستحقه؟!".
تساءلتُ: إذا كيف جئت البحر رغم هذا الحصار؟
تنهدت: "لا اعرف ما الذي جعل زوجي يقرر الذهاب إلى اللاذقية ويأخذني معه برفقة العائلة! قال لي: جهزي متاع السفر.. نريد أن نذهب لقضاء ليلتين على البحر! لم انم طوال يومين منتظرةً السفر.. متخيلةً البحر: شكله، لونه، صوته.. ارسم له صورا وأمحوها..
عندما وصلتُ الشاطئ اندفعت نحوه بجنون.. كيف لا وقد رأيته كما رسمته: كبيرا وعميقاً! مؤتمناً للإسرار! وربما ملاذا لي من الكبت الذي أعيش.. فعمقه يريني أشياء لم يرها احد! أسبح في عالم ليس فيه محرمات.. ممنوعات.. وكلمة عيب! لا جدران أو رجال يجبروني على ارتداء ثوب اسود من راسي حتى قدمي وكأنني غضب حل من الله.
أسكن البحر عارية من كل العادات والتقاليد.. دون أن يكفرني أحد أو يغتصب حريتي لان ما في البحر من حرية يستحق أن تأتيه عارية".
وقتها أدركت إصرار شمس بلادي على الموت كل يوم غرقاً في بحرها الحر انه الموت من اجل الحرية.