بقلم : د.فيصل القاسم ... 19.04.2009
أشعر أحياناً برغبة شديدة للضحك المجلجل عندما أقرأ لبعض الكتاب العرب وهم يبشّرون بظهور قوى عالمية جديدة تنافس الولايات المتحدة الأمريكية، لعلها تزيحها عن سدة القيادة والهيمنة في العالم. فهناك الكثير من المقالات التي تبشـّر هذه الأيام مثلاً بصعود المارد الصيني أو الروسي، وكأن الصينيين والروس سينصفوننا فيما لو تولوا قيادة المعمورة. لا أدري لماذا يغيب عن بال الذين يرنون إلى ظهور أقطاب عالمية جديدة أنه ليس هناك مستعمر جيد ومستعمر قبيح، إلا ربما بدرجة القبح فقط. فإذا ظهرت قوى هيمنة جديدة فلن تكون مجرد جمعية خيرية، بل لها أطماعها ومشاريعها ومخططاتها التي عملت من أجلها طويلاً. وبالتالي بدلاً من الاستنجاد بالقوى الصاعدة على الولايات المتحدة، علينا أن نقوي أنفسنا كي لا نكون لقمة سائغة لا للمستعمرين الحاليين ولا للمستعمرين القادمين.
ليست هناك دول كبرى خيرة على مدى الزمان خاصة أن كل الدول التي سادت تاريخياً عملت بمقولة هوبز المفكر والفيلسوف الإنجليزي الشهير الذي اعتبر أن "الإنسان ذئب للإنسان". كما أنه ليس هناك مستعمر أفضل من آخر. وكما يقول المثل: "ما بتعرف خيرو حتى تجرب غيرو". فقد فعل المغول والتتار ببغداد ما فعله الأمريكيون وأكثر قبل مئات السنين.
كل القوى التي وجدت لديها فائض قوة حاولت استخدامه واستغلاله خارج حدودها. فعلها الرومان من قبل والبرتغاليون والبريطانيون والفرنسيون والعثمانيون وأيضاً العرب والمسلمون. فعندما وجد الأمويون لديهم قوة فائضة ذهبوا بها إلى بلاد الغال (فرنسا حالياً)، وخاضوا هناك معركتهم الشهيرة المعروفة بـ"بلاط الشهداء". لم يذهب العرب إلى هناك من أجل الاستجمام، أو صيد الحمام البري، بل من أجل أغراض استعمارية. لم يتوجهوا إلى أقاصي إندونيسيا في رحلة حول العالم، بل لنشر دعوتهم وثقافتهم واستغلال الأمم الأخرى. أما استبدالهم كلمة استعمار بكلمة فتوحات فهذا لا يغير من الأمر شيئاً. لا يمكن أن نضحك على الناس بمجرد تغيير المسميات.
إن الكثير من العرب ينظر إلى الصين نظرة ودودة ويعتبرها دولة خيرة وطيبة ومسالمة، فهي لم تحاول حتى الآن أن تستعمر دولاً أخرى بالرغم من قوتها الهائلة وعدد سكانها الرهيب. لكن كل من ينظر إلى الصين هذه النظرة الساذجة فهو لا يعرف الحقيقة كاملة. فالصين لم تحاول استغلال فائض قوتها حتى الآن في تصديره إلى الخارج لأنه ليس لديها ما يكفي من فائض القوة كي تستغله خارجياً. لكن لا تتفاجأوا، فقد شهدت إحدى الجامعات الصينية قبل فترة مؤتمراً مهماً تحت عنوان "الدور الرسالي للصين في العالم". والمقصود بالدور الرسالي أن الصين بدأت تراودها أحلام السيطرة على الغير، وهي تفكر الآن بأن يكون لها رسالة في هذا العالم، وهو الاسم الكودي للاستعمار. إذن هي تستعد. ويجب ألا نصاب بالدهشة بعد عقود إذا وجدنا الصين تنتقل من الهيمنة على تايوان المتنازع عليها إلى مناطق أخرى، خاصة أن بكين عضو دائم في مجلس الأمن الدولي، وهو أحد مظاهر الهيمنة المطلوبة. ولا أعتقد أن قوى عظمى كاليابان وألمانيا لا تراودهما أحلام الهيمنة لولا المعاهدات المقيدة لهما منذ هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية. وربما اكتفت برلين وطوكيو حتى الآن بالهيمنة الاقتصادية والتجارية الهائلة على العالم، خاصة أنه قلما يخلو بيت في العالم من السلع الإلكترونية اليابانية الباسطة نفوذها على الجميع على أمل أن تتاح لهما فرصة الاستعمار والسيطرة على الغير لاحقاً.
علينا أن نعرف أن الكبار يفكرون بعقلية أخرى غير تلك التي يفكر بها الصغار. وكما يقول المثل الشعبي: "على قدر بساطك مد رجليك". وبما أن البساط المتوفر للدول الكبرى طويل للغاية فلا بد من استغلاله إلى أقصاه. وقبل أن ندين قوى التسلط والهيمنة ونذرف الدموع على البلدان المستضعفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، لا بد أن نعرف أن هناك ما يشبه القانون الطبيعي الذي يشجع هيمنة القوي على الضعيف تماماً كما هو الوضع في الغابة، فكما أن لدى الحيوانات العاشبة القابلية للافتراس من قبل الحيوانات المفترسة، فإن لدى الإنسان المتخلف القابلية للاستعمار كما أوضح من قبل المفكر الجزائري مالك بن نبي. لا فرق أبداً بين الإنسان والحيوان، فالحيوان صاحب الجسم القوي والمخالب الجارحة والسرعة الرهيبة والأنياب القاطعة لن يخلد إلى مداعبة الفراشات الحالمة والتسلي برحيق الزهور، بل سيستخدم كل ما توافر له من عناصر القوة للتنكيل بالحيوانات الضعيفة وإخضاعها واستباحتها. لكنه بالتأكيد لن يتعرض لحيوان آخر من صنفه. فالأسد لا يحاول إخضاع الأسود الأخرى والنمر لا يحاول فرض سطوته على نمر آخر وكذلك الفهد. وهكذا الأمر بالنسبة للدول العظمى.
لقد وجدت الولايات المتحدة نفسها مثلاً تستحوذ على أكبر قوة اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية وعلمية وإعلامية وثقافية في التاريخ هذا في الوقت الذي ترزح فيه المنطقة العربية تحت تخلف اقتصادي وعلمي واجتماعي وثقافي رهيب. بعبارة أخرى لدينا نحن العرب فراغ هائل يجب أن يُملأ. وقانون الطبيعة لا يسمح بوجود فراغات. لقد وجدت أمريكا لدينا ثروات نفطية خيالية يسيل لها لعاب الدول المتقدمة ونحن ليس لدينا حتى القدرة على معرفة مكامنها ناهيك عن أن يكون بوسعنا استخراجها، مما جعل الكاتب الأمريكي الشهير توماس فريدمان يصف بنوع من العنصرية الدول العربية المنتجة للبترول بأنها مجرد "محطات وقود" للأمريكيين. هل نلومه على نظرته الدونية للتخلف العربي؟ بالطبع لا. فنحن لم نستطع، بفضل "قيادتنا العربية الرشيدة" أن نعلم أكثر من سبعين مليوناً من سكان الوطن العربي الحروف الهجائية بعد، في وقت تعتبر فيه إسرائيل الأمي الحقيقي لديها ذلك الشخص الذي ليس لديه جهاز كومبيوتر، ناهيك عن أننا لم نتمكن من تصنيع أبسط مستلزماتنا حيث نستورد الفول والفلافل والطعمية والغترة والعقال من الغرب واليابان. فكيف لنا أن نخترع المعدات الثقيلة التي تكتشف الثروات تحت باطن الأرض، وتستخرجها وتكررها، وتصنعها، وتحولها إلى سلع عجيبة غريبة؟ وكذلك الأمر بالنسبة للأفارقة فقد حباهم الله بثروات هائلة ومعادن نفيسة في باطن أرضهم، لكنهم لم يتمكنوا من استغلالها فوقعوا فريسة للقوى التي تعرف كيف تستغل الطبيعة والإنسان ليصبحوا مثلنا ضحايا للمستعمرين الأمريكيين الجدد.
وللمستبشرين بالقوة الصينية الصاعدة، أود أن أشير إلى أنها دخلت مسبقاً في صراع استعماري مع الأمريكيين على أفريقيا من أجل المعادن والنفط. ولولا وجود الصينيين في دارفور، لما أثارت أمريكا كل هذه الضجة حول السودان، ولما طالبت بمحاكمة البشير. إنه مجرد تنافس استعماري على الفرائس لا أكثر ولا أقل.