بقلم : تيسير خالد ... 2.9.06
في الثاني عشر من تموز الماضي ، أي بعد اسبوعين ونصف من أسر الجندي الاسرائيلي في قطاع غزه على أيدي قوة من ثلاث مجموعات عسكرية هي كتائب عز الدين القسام ولجان المقاومة الشعبية وجيش الاسلام ، قام حزب الله بعملية عسكرية استهدفت أسر جنود اسرائيليين . أسر جلعات شاليط جاء في سياق عملية عسكرية ضد قوات الاحتلال في القطاع ، اما أسر إلدار ريفف وايهود غولد فاسر في جنوب لبنان فقد جاء نتيجة لعملية جرى التخطيط لها بهدف واضح ، وهو أسر لغاية لم يخفها قائد المقاومة اللبنانية السيد حسن نصر الله ، على الأقل في مؤتمره الصحفي بعد العملية ، وهي الانتصار للمقاومة الفلسطينية وتعزيز مطلبها العادل بتبادل الاسرى مع حكومة اسرائيل الى جانب تحرير اسرى لبنانيين رفضت اسرائيل اطلاق سراحهم في صفقة تبادل سابقة بين الجانبين اللبناني والاسرائيلي . تلك كانت حدود العملية التي قام بها حزب الله والتي تزامنت مع عرض الدخول في مفاوضات غير مباشرة بهدف التوصل الى تسوية سياسية عبر طرف ثالث لقضية الاسرى .
أسر جلعاد شاليط في قطاع غزه وإلدار ريفف وايهود غولد فاسر في جنوب لبنان شكل صدمة لحكومة اسرائيل ، خاصة وان الأسر ترافق مع سقوط عدد من القتلى في صفوف الجيش الاسرائيلي في الحالتين . حكومة اسرائيل اعلنت ان ذلك العمل يشكل بحد ذاته مساً خطيراً بقوة الردع الاسرائيلية ، ومن هنا وجدت عملية الأسر مبررا لاتخاذ قرار الخروج الى الحرب ضد حزب الله .
قرار الخروج الى الحرب لم يكن صعباً . في الصباح وقع الجنديان في الأسر ، وفي المساء من ذلك اليوم كان قرار الخروج الى الحرب . وحددت حكومة اسرائيل للحرب اهدافاً تجاوزت بكثير استعادة الاسيرين ، وهو ما ألقى الضوء على أمر خطير كانت اسرائيل تستعد له وبتنسيق وتعاون مع الادارة الامريكية .
اهداف الحرب تجاوزت موضوع استعادة الاسيرين تماماً كما هو حال العدوان الاسرائيلي المتواصل ضد قطاع غزه . قضية جلعاد شاليط والدار ريفف وايهود غولد فاسر اصبحت تفصيلاً في مشروع سياسي واسع تقاطعت عنده مصالح حكومة اسرائيل مع مصالح الادارة الامريكية ، أو في مشروع سياسي اندمجت فيه "سياسة الاحباط الموضعي " الاسرائيلية مع استراتيجية الامن القومي الامريكي حول الحرب الاستباقية . الاحباط الموضعي والحرب الاستباقية هما وجهان لعملة واحدة وقد تحولت الى أهم اركان السياسة العدوانية في أخطر ميادينها وهو ميدان الشرق الاوسط .
الحرب الاستباقية أهالت التراب منذ زمن على استراتيجية الاحتواء والردع ، التي اعتمدتها الادارات الامريكية في زمن الحرب الباردة . هذه الحرب الاستباقية أصبحت في ظل حكم المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الامريكية عصب الحياة في استراتيجية الامن القومي الامريكي ، وهي استراتيجية دينامية تحوي مخزونا رهيباً من النزعة العدوانية .
في أيلول من العام 2002 تبلورت تلك الاستراتيجة في جوانبها العسكرية الهجومية تحت ستار مكافحة الارهاب ، الذي ضرب الولايات المتحدة الاميركية في أيلول عام 2001 .
وقبل اسابيع قليلة صدرت عن المحافظين الجدد طبعة جديدة حول استراتيجية الامن القومي ، تهدد باشاعة الفوضى على المستوى الكوني ، وباحتمال الانزلاق نحو مواجهات ساخنة ليس فقط مع ما تسميه الادارة الامريكية منابع الارهاب بل ومع منافسين محتملين للهيمنة التي تسعى الادارة الامريكية الى مدها على مستوى العالم بأسره .
وثيقة الامن القومي الامريكي الجديدة تغطي مساحات غابت عن وثيقة العام 2002، فهي تذهب الى حدود التحذير من طرق التفكير القديمة والتصرف على اساسها في سياق التنافس على الموارد وتأخذ على سبيل المثال لا الحصر على الصين بأنها توسع تجارتها وتتصرف كما لو كان بوسعها احتكار إمدادات الطاقة أو تحويل الاسواق بدلاً من فتح أسواق جديدة كما لو ان بوسعها اتباع نزعة تجارية من عهد فقد مصداقيته ، وتذهب الى حدود الاستعداد للتدخل في الشؤون الداخلية لروسيا الاتحادية تحديد مستقبل العلاقة معها على السياسات الخارجية والداخلية التي سوف تسير عليها روسيا .
ما هو موقع اسرائيل في هذه الاستراتيجية العدوانية الكونية التي تسير عليها الادارة الامريكية في عهد المحافظين الجدد . ليس صعباً الاجابة على هذا السؤال في ظل ما كشفت عنه مقدمات ونتائج الحرب العدوانية التي شنتها اسرائيل ضد حزب الله ولبنان على امتداد اكثر من شهر واستخدمت فيها كل طاقاتها العسكرية .
في المقدمات قام قائد المقاومة اللبنانية في بداية الحرب بالكشف عن مشروع عدواني تحضر اسرائيل نفسها للبدء به في نهاية ايلول القادم أو مطلع تشرين ، واعتبر البعض كشف السيد حسن نصر الله دفاعاً عن اتهام حزب الله بجر لبنان والمنطقة الى حرب في غير أوانها والى حرب بالوكالة ليس للبنان واللبنانيين مصلحة فيها . على هذا المتسوى ، ومن اجل تجنب الخطأ في الحسابات السياسية لا ينبغي استبعاد الحسابات السياسية الاقليمية لدى حزب الله وسلوكه السياسي بشكل عام ، غير ان ذلك لا يلغي من الاعتبار ان خروج اسرائيل الى الحرب في لبنان كان مشروعاً قائماً ومتفقاً عليه بتفاصيله مع الادارة الامريكية . الشواهد على ذلك ليست بالقليلة ويمكن اجمالها بشواهد ثلاثة :
الشاهد الاول هو اندماج استراتيجية الاحباط الموضعي الاسرائيلية في استراتيجية الامن القومي والحرب الاستباقية الامريكية في طبعتها الجديدة أو صيغتها الجديدة . وفي الحقيقة ان اسرائيل لا تستطيع ان تبقى خارج سياق هذه الاستراتيجية الامريكية وهي التي تعتمد في الحفاظ على ترسانتها العسكرية المتفوقة على الولايات المتحدة الامريكية وتعتمد في الحفاظ على حالة التوازن في حياتها الاقتصادية على الولايات المتحدة الامريكية كذلك من خلال مساعدات كلفت دافع الضرائب الامريكي نحو 1.6 ترليون دولار ، اي الف وستمائة مليار دولار منذ العام 1973 وحتى الآن .
الشاهد الثاني هو كشف وسائل الاعلام الاسرائيلية ذاتها خلال الحرب عن " خطة الدرج " التي اعدتها القيادة الشمالية في الجيش الاسرائيلي للحرب في لبنان وأوصت بها هيئة الاركان ،وهي خطة خضعت للتمرينات والتدريبات مرتين ، الاولى قبل ستة اشهر من العدوان والثانية قبل اسبوعين من العدوان ، وهي خطة تعتمد على ضربات جوية عنيفة لمدة اسبوعين تطال البنى التحتية في لبنان وتستهدف في الوقت نفسه البنية العسكرية لحزب الله بدءا بعديد قواته المقاتلة مروراً بأسلحته الصاروخية وانتهاء ببنيته القيادية وفي المقدمة منها الامين العام للحزب السيد حسن نصر الله ." خطة الدرج " هذه كانت جاهزة بالفعل ، غير أنها لم تحقق النجاح لاعتبارات كثيرة يتصل بعضها بقيادة سياسية مرتبكة في اسرائيل وقيادة عسكرية مأخوذه بغرور القوة وتجربة الحرب مع الفلسطينيين ويتصل بعضها الاخر بضعف المعلومات الاستخبارية ليس فقط بشأن تسليح المقاومة اللبنانية بل واسلوبها في القتال ، وهو اسلوب مرن كان يتكيف ويتطور في سياق الحرب ذاتها ويجمع بين حرب العصابات المتحركة وبين الثبات في الارض والدفاع بشجاعة فاقت توقعات القيادة العسكرية الاسرائيلية . وشنت اسرائيل سبعة آلاف غارة جوية على لبنان وأطلقت المدفعية الاسرائيلية اكثر من مئة وعشرين ألف قذيقة على جنوبه ، ورغم ذلك بقيت " خطة الدرج " عاجزة عن تحقيق نصر عسكري يذكر على المقاومة اللبنانية .
أما الشاهد الثالث ، فهو موقف الادارة الامريكية من الحرب . منذ اليوم الاول اعلنت الولايات المتحدة الامريكية ان اسرائيل تخوض حرباً مشروعة وحربا عادلة ، وحرب دفاع عن النفس دون ان تنظر الى نزعة التدمير السادية التي تمارسها القوات الاسرائيلية في قرى ومدن الجنوب اللبناني والبقاع وفي الضاحية الجنوبية لبيروت . تدمير لبنان واعادة اقتصاده وحياته عشرين عاماً الى الخلف وقتل النساء والاطفال وغيرهم من المدنيين وتهجير اكثر من مليون مواطن لبناني كان بالطبع احد أدوات الحرب لتأليب الرأي العام في لبنان ضد المقاومة اللبنانية وكان أمراً مقبولاً من الادارة الامريكية ومنسجماً تماماً مع مشروعة وعدالة الحرب التي خرجت اليها اسرائيل في لبنان . في هذا السياق يمكن فهم موقف الادارة الامريكية من الحرب ، فهذه الادارة لم تكتف باعتراض جهود دولية كانت تبذل للتوصل الى وقف لاطلاق النار بل تجاوزت ذلك باتجاه منح اسرائيل اكثر من فرصة لمواصلة حرب " خطة الدرج" ووصولها الى غاياتها العسكرية بتدمير حزب الله والمقاومة اللبنانية والسياسية بتجاوز تنفيذ محددات القرار 1559 نحو اعادة ترتيب الوضع في لبنان والمنطقة وتأهيله ليكون محطة انطلاق نحو بناء ما أسمته وزيرة الخارجية الامريكية كوندوليزا رايس بالشرق الاوسط الجديد .
في زياراتها لاسرائيل بشكل خاص والمنطقة بشكل عام لم تأت وزيرة الخارجية الامريكية للضغط على حكومة اسرائيل من أجل وقف اطلاق النار بل على العكس من اجل الفحص عن قرب بأن العمليات العسكرية تتقدم وبأن اسرائيل لن تضيع الفرصة التي اتاحتها هذه الحرب للتقدم في مشروع سياسي خطير يتجاوز لبنان نحو المنطقة بأسرها . الصحافة ووسائل الاعلام الاسرائيلية أجمعت في حينه ان وزيرة الخارجية الامريكية كانت تزور المنطقة للتحقق من ان اسرائيل لن تضيع الفرصة لتثبت انها الذراع الطويلة والقوية للولايات المتحدة تماماً مثلما هو حزب الله الذراع الطويلة لايران " حسبما كتبت المحللة السياسية في يديعوت احرونوت سيما كدمون في عددها في الرابع والعشرين من تموز الماضي ، وكانت تزور اسرائيل " من اجل اسكات صوت المعارضة للحرب وكسب الوقت ولجم المبادرات غير المرغوب فيها لوقف الحرب " وفقاً لمراسل يديعوت احرونوت في واشنطن يتسحاق بن حورين ، وهو ما دفع رئيسة كتلة ميرتس في الكنيست الاسرائيلي زهافا غلئون الى القول بأن " على اسرائيل ان تعمل وفقاً للمصلحة الاسرائيلية وليس الامريكية " والى مطالبة حكومتها " بعدم تحويل الجيش الاسرائيلي الى لحم مدافع الرئيس الامريكي جورج بوش " .
اسرائيل خرجت الى الحرب إذن ليس بهدف استعادة جنود وقعوا في اسر المقاومة اللبنانية ، بل هي خرجت الى الحرب باعتبارها الذراع الطويلة والقوية للولايات المتحدة الامريكية واستراتيجيتها المنقحة حول الامن القومي الامريكي والحرب الاستباقية . وقد استخدمت الجنود الاسرى وسيلة لحشد الجمهور وبناء اجماع وطني حول الحرب ، تماماً كما فعلت عندما خرجت الى الحرب في لبنان عام 1982 وهي تستخدم محاولة اغتيال سفيرها في لندن يعقوب أرغوف على أيدي مجموعات فلسطينية متطرفة كانت قد انشقت عن حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية في السبعينات . للحرب عام 1982 كانت اهدافها الأبعد ، تماماً مثلما هي الحرب في لبنان عام 2006 وفي الحربين كانت أهداف الحرب تتقاطع مع اهداف الهيمنة والسيطرة الامريكية على المنطقة . استراتيجية احتواء وردع دول قوس الازمات ، الذي كان يمتد من القرن الافريقي الى أفغانستان في الثمانينات تتجلى اليوم في استراتيجية الامن القومي والحرب الاستباقية الامريكية في منطقة الشرق الاوسط ضد ما يسمى بلغة الادارة الامريكية بمنابع الارهاب تارة والقوس الشيعي تارة اخرى ، ولدولة اسرائيل في كل هذا دور واضح وبارز ، خيب آمال من اعتقدوا انه قد تراجع بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية وانه قد تراجع كذلك بعد التوقيع على اتفاقيات اوسلو بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية .
السؤال الآن : هل تستسهل اسرائيل الخروج الى الحرب وما يترتب عليها باعتبارها اداة من أدوات السياسة العدوانية الامريكية وذراعاً طويلة وقوية في استراتيجية الامن القومي والحرب الاستباقية الامريكية . سؤال يطرح نفسه في سياق تتماهى فيه استراتيجية الاحباط الموضعي الاسرائيلي مع استراتيجية الحرب الاستباقية ، التي تسير عليها الادارة الامريكية تحت حكم المحافظين الجدد . الجواب هنا يحتمل التاكيد والنفي معاً ، فأسرائيل لم تفقد وظيفتها كذراع لم تعد طويلة وقوية في استراتيجية الامن القومي والحرب الاستباقية الامريكية ، كما أوضحته نتائج الحرب في لبنان ، واسرائيل كذلك تخرج الى الحرب وفي الوقت نفسه تقدم للادارة الامريكية فاتورتها الباهظة في ميادين شتى اقتصادية وعسكرية وسياسية ، وهي في ذلك ترعى مصالحها وتدافع عنها ،بما في ذلك مصالحها في التفوق والسيطرة وفي مواصلة السياسة العدوانية الاستيطانية التوسعية , أبعد من ذلك ، فان اسرائيل تجني الفوائد من الادارة الامريكية على خلفية خططها السياسية ، أو بتعبير أدق على خلفية خطط تبدو في ظاهرها سياسية ولكنها لا تحجب عن النظر والبصر أبعادها العدوانية والتوسعية , فالخروج من لبنان في أيار عام 2000 كان في جانب رئيسي منه خروج من مسار التفاوض مع سوريه بموافقة ودعم من الادارة الامريكية ،تماماً كما كان الخروج من قطاع غزه خروج من مسار التسوية مع الجانب الفلسطيني بموافقة ودعم من الادارة الامريكية .
أخيراً توقفت الحرب في لبنان دون ان تحقق اهدافها الاسرائيلية منها والامريكية ، وهدأ صوت المدافع وعاد لبنان يلملم جراحه ويسعى لاعادة بناء ما دمرته آلة الحرب الاسرائيلية . وعلى الجانب الاخر تلعق اسرائيل جراحها على المبرد وتواصل مع الادراة الامريكية دق طبول الحرب ، فهل تخرج اسرائيل من جديد الى الحرب مع الادارة الامريكية في " يوم ندم " جديد وحرب استباقية ضد ما تسميه هذه الادارة بالقوس الشيعي من اجل " بناء شرق اوسط جديد " . ذريعة الحرب جاهزة وهي ملف ايران النووي , أما الخروج الى الحرب فله حسابات أخرى معقدة ، لا تقف حدودها عند الشرق الاوسط ، بل تتجاوزه بمغامرة ومقامرة يجدر بكل من الادارة الامريكية وحكومة اسرائيل التدقيق في نتائجها وعواقبها .
نابلس :29 /8/2006