أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
فوز نجاد لا يخدم فلسطين والفلسطينيين!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 17.06.2009

ليس هناك دواع فلسطينية للغبطة الساذجة بسبب إعادة انتخاب الرئيس الإيراني أحمدي نجاد. هناك دواع موضوعية للشعور بعكس ذلك تماماً, إذ إن وجود نجاد على رأس الحكم في طهران لمدة أربع سنوات أخرى لن يجلب إلى الفلسطينيين والقضية الفلسطينية إلا مزيداً من التهميش الإقليمي والدولي. الإنجاز الأهم لإيران النجادية فلسطينياً خلال السنوات الماضية يتمثل في إزاحة الملف الفلسطيني عن "مركزيته" الإقليمية واستبداله بـ "الخطر الإيراني النووي على إسرائيل". عوض أن تظل فلسطين هي القضية الأهم, وعوض أن يبقى الاحتلال الإسرائيلي المتزايد الغطرسة والتوحش دوماً هو بؤرة الاهتمام والتعبئة والنضال ضده هو جوهر أي سياسة أو مقاومة في المنطقة, أصبحت إيران هي القضية. فتح نجاد ملفات لفظية ورطانية على صعيد الصراع مع إسرائيل لا قيمة لها عملياً إلا بكونها ذات أثر عكسي مدمر, أهمها شعارات محو إسرائيل من الخارطة وإنكار الهولوكست, لا الأول هدف تريد تحقيقيه إيران فعلاً, ولا الثاني قضية الفلسطينيين أو محط اهتمامهم.
ثمة قراءة في الخطاب النجادي تريد أن ترى فيه عمقاً وإستراتيجية بعيدة المدى, وهو أمر مشكوك في وجوده مسبقاً, وعلى أكثر تقدير يكون قد ألحق تالياً بعد أن تكرس ذلك الخطاب لفظياً. تقول هذه القراءة إن رفع السقف مع إسرائيل ولو لفظيا يعني موقفا تفاوضيا أقوى عندما تأتي اللحظة الحقيقية, وهي, للمفارقة, لحظة تفاوضية مع الغرب ومن ورائه إسرائيل, وليست لحظة حربية! في قلب التفاوض الغربي-الإيراني تكمن مجموعة من المصالح القومية الإيرانية التي لها علاقة بنفوذ إيران الإقليمي, وموقعها, وعدم التحرش الغربي بنظامها. من حق إيران بطبيعة الحال أن تحاول, كأي دولة أخرى, أن تعزز موقعها وتدافع عن مصالحها. وأن تستخدم في ذلك ما تريد أن تستخدمه من مسوغات وشعارات. لكن هذا ليس مسوغاً لأي انجراف فلسطيني وعربي وراء تسييس إقليمي تقوده إيران يستهدف تحقيق مصالح إيرانية قومية.
بيد أن سياسة رفع السقف الشعاراتي والبلاغي النجادية قادت إلى كوارث سياسية, وربما ستقود إلى كوارث حربية أيضاً. أول هذه الكوارث أن إسرائيل التقطت الخطاب النجادي وبروزته كخطر وجودي عليها يريد تنفيذ هولوكست آخر ضد اليهود وهذه المرة في المنطقة. الاستخدام الإسرائيلي لفزاعة الخطر الإيراني مُبالغ فيه بشكل جارف, والقصد الإستراتيجي والأهم من استخدامه هو تحويل الاهتمام عن عنصرية وبشاعة الاحتلال الإسرائيلي, وتهميش القضية الفلسطينية. ورغم اتساع الإدراك العام بأهداف إسرائيل الحقيقية من وراء تضخيم الخطر الإيراني, إلا أن تواصل التهديدات النجادية, والتصريحات الجوفاء, بمناسبة أو بدونها حول محو إسرائيل وإنكار المحرقة كان يشبع نهم السياسة الإسرائيلية الباحثة دوماً عن "تهديدات وجودية" لتتذرع بها لمواصلة احتلالاتها وعنصرياتها. وبعد عدة سنوات عجاف من النجادية الإقليمية فإن الخلاصة التي نراها الآن هي نجاح إسرائيلي في فرض "قضية إيران" على رأس الأجندة الإقليمية والدولية, عوضا عن فلسطين.
مقابل الشعار المرتفع الذي يريد تحقيق مصالح إستراتيجية تفاوضية فإن جوهر الموقف الإيراني إزاء الصراع الإسرائيلي/الفلسطيني لا يتعدى ما أعلنه أكثر من مسؤول إيراني من أن طهران "تقبل ما يقبل به الفلسطينيون". بمعنى آخر, براغماتي وصريح, فإن السياسة القومية الإيرانية التي بوصلتها مصلحة إيران, ليس في مصلحتها على الإطلاق خوض صراع حقيقي أو عسكري مع إسرائيل. ولن تغلي طهران غضباً إذا ما تم التوصل إلى تسوية إسرائيلية-فلسطينية أخفض من سقف "محو إسرائيل عن الخارطة". بل ستقبل ما يقبل به الفلسطينيون. فإذا كان الأمر كذلك فلماذا إذا مواصلة دفع الشعار إلى الحافة, وإغواء جانب كبير من الفلسطينيين للحاق به, جرياً على عادة اللحاق بخطابات شعاراتية سابقة من دول وزعماء استخدموا قضية فلسطين لغايات تعزيز دكتاتورياتهم وقمع شعوبهم أكثر من أي شيء آخر.
والأثر الذي تركه ويتركه الخطاب النجادي على الفلسطينيين هو ثاني كوارث هذا الخطاب. فعلى خلفية الإحباطات المتفاقمة, والفشل الممتد عدة عقود, والتخاذل العربي والإسلامي في إيقاف المشروع الصهيوني, وكذا فشل مشروع التسوية الأوسلوي, يتم التعلق بأي بصيص أمل والتشبث به. والمشكلة هنا أن التعلق بسقف الشعار الإيراني ينتقل بمناصريه والمعجبين به إلى ذرى تحليقية عالية لا علاقة لها بالواقع الذي يسير حثيثاً في اتجاه آخر مدمر. بلغة أخرى, يتواصل الخطاب الإيراني النجادي في إنتاج من يشبع الرغبات والأحلام ويحشد خلفه الحشود, وفي نفس الوقت تتواصل جوانب الاحتلال الإسرائيلي العنصرية والاستيطانية بالترسخ سنة إثر سنة. ومرة أخرى, يوفر ذلك الخطاب لإسرائيل المظلة السياسية الذهبية كي تستمر في إستراتيجيات الضم والاحتلال على أرض الواقع, بينما تستعطف العالم دبلوماسياً ودولياً لمساندتها خشية "الخطر الإيراني الماحق" على وجودها. في سنوات النجادية العجاف تواصل الاستيطان الإسرائيلي بوتائر مخيفة, وتضاعف تهويد القدس ومحاولات القضاء على هويتها العربية والإسلامية, وترسخ وامتد جدار الفصل العنصري, وتدهورت أوضاع الفلسطينيين داخلياً وحدث انشقاق رأسي في السياسة والجغرافيا لم يحدث في أي مرحلة سابقة في تاريخ الفلسطينيين, وتفاقمت مستويات الفقر والبطالة والاقتصاد, وسوى ذلك كثير. هذه بعض الجوانب العملية التي حدثت ولا تزال تحدث على الأرض في نفس الوقت الذي تعلو فيه نبرة النجادية تهدد وتتوعد. ماذا فعلت النجادية عملياً وعلى أرض الواقع لتوقف التدهور, أو على الأقل تقلل من وتيرته؟
لإيران القومية أن تقول إنها لن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين, أو أن تقبل مسؤولية أكثر من المسؤولية المنخفضة المستوى التي تقبل بها أي دولة عربية أو مسلمة أخرى تجاه فلسطين والفلسطينيين. ولهذا فليس من المشروع والمنطقي مطالبتها بسياسات عملية توقف ترسخ الاحتلال الإسرائيلي وتدهور الوضع الفلسطيني. لكن إيران هي التي تتصدى, شعاراتياً, لما هو أعلى بكثير من هذه المطالب العملية, فتصبح إيران النجادية, لفظياً ورطانة, أكثر فلسطينية من الفلسطينين. ولا ينعكس هذا الادعاء إلا بالضرر وليس بالفائدة لهم.
سيقول قائل هنا لكن فوز نجاد سيكون في صالح "قوى الممانعة والمقاومة" وأنه من حق حماس وحزب الله أن يرحبا بفوزه بكونه هكذا. بيد أننا نعلم أن إيران خاتمي كانت داعمة أيضا لحماس وحزب الله, وأن إيران موسوي كانت ستكون داعمة لهما أيضاً. ما هو مهم في ذلك كله كان وما زال التخلي عن الخطابات الجوفاء التي توفر عتاداً جاهزاً لماكينة الاحتلال الإسرائيلي. بقاء هذا العتاد بفوز نجاد استقبلته أصوات إسرائيلية بغبطة وفرك الأيادي, كما نقلت الصحافة الإسرائيلية.