بقلم : د.خالد الحروب ... 08.07.2009
بكل معايير الدمقرطة المتعارف عليها دوليا لا تزال البلدان العربية تحتل باقتدار ذيل أي ترتيب عالمي رغم كل التحولات السياسية والعولمية التي شهدها هذا الكوكب. أُسيل حبر عربي وغير عربي كثير لمحاولة فهم الاستعصاء الديموقراطي الذي حلت لعنته على المنطقة. لكن ظلت محاولة الفهم إشكالية, وبقي الاستعصاء ظافراً وتاركاً لأنماط الحكم السلطوي حرية التباهي بالاستبداد من دون خجل في عالم يتسابق نحو التباهي بالحرية. لم يترك السجال الفكري والنظري في الدمقرطة العربية فكرة أو تفسيرا إلاّ قلّبه من كل الجهات. كل مقاربة تقدم الفكرة ونقيضها, وكلتاهما فيه هذا القدر أو ذاك من التحليل الموضوعي.
قيل إن الصراع مع إسرائيل أعاق الدمقرطة العربية لأنه ما كان يجب أن يعلو صوت على "صوت المعركة". خبت المعركة وانهزمنا فيها, ولم يخبُ الاستبداد. وقيل إن الفقر يعيق الديموقراطية ولابد من بناء طبقة وسطى قوية وعريضة تكون حاملة للتحول الديموقراطي. قامت طبقات وسطى في بلدان عربية, واغتنت بلدان أخرى, ثم عادت وتهشمت تلك الحوامل, وبقي الاستبداد مقيما. وقيل إن التنمية تتقدم على الديموقراطية التي عليها أن تنتظر, وربما طويلاً, كي تُنجز مستويات مقبولة من التنمية يتم بعدها استقبال الديموقراطية. لم يحدث لا هذا ولا ذاك. قيل إن الثقافة العربية و"العقل العربي – العرفاني" والتقاليد المتوارثة والتفسيرات الدينية تخلق معاً بيئات غير مستقبلة للديموقراطية. وهذا كله يحمل الفكرة ونقيضها, نظرياً وتاريخياً.
وقيل أيضاً إن معظم السجال العربي حول الديموقراطية كان خجولاً ولم يتسم بالشجاعة المطلوبة ليضع أصبعه على جوهر الإشكالية: مرجعية التشريع وسقفه. في الديموقراطية تؤول تلك المرجعية إلى الشعب عبر البرلمان, وهو سقفها ولا سقف بعده. في النظم الثقافية العربية والإسلامية يحتل الدين ذلك الموقع. ومن دون البدء نظرياً و فكرياً بالتوافق على فكرة إحداث التنازل التاريخي للدين عن موقف المرجعية العامة المطلقة, وانحساره إلى الحياة الفردية والروحية وحسب, فإن كل سجالات الدمقرطة هي حراث في البحر. لكن قيام ذلك التوافق حالياً شبه مستحيل في ضوء سيطرة الإسلاموية على الفضاء العربي شرقا وغرباً. إذن, سجالياً وفكرياً نحن عملياً أمام مأزق وحائط مسدود.
بيد أن التغيير الاجتماعي والسياسي, لحسن الحظ أو لسوئه أحياناً, لا يتم وفق تنظيرات مسبقة, وهو ليس عملية سجالية وتنظيرية بين أفكار, بقدر ما هو صيرورات وتوترات ومساومات وصراعات وخلاصات على أرض الواقع. وهكذا فسواء حسم السجال التنظيري أم لم يُحسم فإن حركة الواقع تظل تندفع في اتجاهات مختلفة, وأحيانا مضادة ومفاجئة لكل ما قد تم توقعه, أو نُظّر له. من هذه الزاوية, زاوية تحولات وصيرورات الواقع وليس المطارحات السجالية, يمكن مراقبة بعض جوانب الدمقرطة الوئيدة والبطيئة في العالم العربي – وتحديداً في اللحظة الراهنة موريتانيا وسبقها بقليل الكويت.
تختلف الدمقرطة في الحالتين الكويتية والموريتانية عن بقية الحالات العربية (الأردن, المغرب, الجزائر, مصر, ...), لناحية عمقها النسبي ومناوشاتها لأشكال النظام التقليدي القائم, وطرحها أسئلة تتخطى الحدود الحمر. أو بمعنى آخر تحولات الدمقرطة في هاتين الحالتين تحدث حول النظام, أي تريد تغييره جزئياً, فليست هي تحت النظام تماماً, ولا هي فوق النظام تماماً وخارجه عنه تريد قلبه. في أغلب الحالات العربية كانت تحولات الدمقرطة جزئية ومحتواة من قبل النظام القائم, أو هي "دمقرطة مقيدة" بحسب وصف علي محافظة, ومحسوبة بدقة حتى لا تزعزع أسس الوضع الراهن كلياً, أو تغير من وجهته العامة. وفي الحالات التي "فلتت" فيها عملية دمقرطة بشكل غير محسوب وأصبحت فوق النظام كلياً وخارجياً, كما في الجزائر في أوائل التسعينات, أو في الحالة الفلسطينية في 2006, مهددة بتغيير شامل ومفاجىء في النظام, فإن البنى السياسية القائمة ردت بعنف لأن آليات استيعاب تحول النظام (وليس التحول في النظام) غير موجودة أو راسخة.
وجزء من المشكلة المرافقة للدمقرطة في العالم العربي يكمن في عمق التغيير الذي تُطالب به القوى المعارضة على مستوى الشكل السياسي القائم: هل هو تغيير في المحتوى, في البرامج, في الحكومات, في الوجهة السياسية والعلاقات, أم في جوهر النظام القائم وجذوره. القوى الإسلامية تطرح الطرح الأخير, التغيير الجذري, بمعنى تغيير فوق النظام وخارجه, وليس داخله, أو حوله, بما يجعل طروحاتها مخيفة ومرفوضة من قبل كثيرين. فالتغيير الجذري المطروح قد لا يحتوي على دمقرطة مستقبلية, حتى إن كانت وئيدة وبطئها مستفزاً. ولا يبشر بنموذج مغربل منفر من طالبان إلى إيران.
على ذلك يمكن التأمل في قراءة من نوع مختلف في تجربتي الكويت وموريتانيا لناحية أنهما تجارب دمقرطة داخل النظام لكن تتجه نحو تغيير نصفي في النظام, ليس جذريا أو ثورياً, لكنه تغيير كبير. ففي الكويت طرحت الدمقرطة مجموعة من الأسئلة وما تزال تطرحها تتعلق بموقع العائلة المالكة, وإمكانية تعديل الشكل الدستوري إلى نظام "ملكي دستوري" على الأنماط الأوروبية الراهنة, حيث السلالات الملكية تملك ولا تحكم. وأسئلة تتعلق بالمواطنة والبدون والطائفية, ودور المرأة. وهذه الأسئلة تعدل من مرونة الأسقف السابقة والتقليدية وتزحزحها إلى الأعلى. كما أن نضالاتها من أجل حرية أكثر تؤدي دوماً إلى نقاشات أكثر ثراء وعمقاً, لا تتمتع بهما دول الجوار.
في موريتانيا ومنذ سقوط نظام معاوية ولد الطايع تحاول الجمهورية الموريتانية (الثالثة!) الإنفكاك من قبضة العسكر – أي أن تخرج خارج النظام. لكن سلسلة الانقلابات المؤسفة في السنوات الأخيرة أشارت إلى الصعوبة البالغة لقيام أي نظام قوي وفعال بعيد كليا عن مراقبة, حتى لا نقول تدخل, المؤسسة العسكرية. وبسبب ترهل بنى المؤسسة الحكومية المدنية نتيجة سنوات طويلة من سوء إدارة نظام ولد الطايع, وبروز الجيش كأهم بنية منظمة ومنضبطة في البلاد, لم تستطع الحكومات المنتخبة أن تقلع إلى الأمام مستندة إلى أساسات بنيوية وتنظيمية إدارية راسخة. ونتيجة للفشل المتكرر كان الجيش يتدخل عن طريق الانقلابات المتتالية.
بعيدا عن التفاصيل هنا وهناك يبقى أن المميز الأكبر للتجربتين الكويتية والموريتانية أنهما تتجهان نحو الطريق الصحيح: الدمقرطة العملية ومواجهة مصاعب وأحيانا كوارث التغيير نحو الديموقراطية. صحيح أن هناك إحباطات, وصراعات, وحزبيات, وتشفٍ من قبل الخصوم بأن العملية السياسية والديموقراطية شلت البلد, لكن هذا سيحدث لجميع المتشفين الذين تأخروا عن الانخراط في عمليات مشابهة. بعد عدة سنوات وربما عقود, تكون تجارب الكويت وموريتانيا قد نضجت, فيما يكون من يتشفى الآن يلهث وراءهما وقد أضاع الوقت الكثير.