بقلم : د.خالد الحروب ... 29.05.2009
بكل المعايير سيكون لخطاب أوباما القادم في القاهرة يوم 4 حزيران نكهة تاريخية. هناك الكثير من الرهانات والآمال والتوقعات ... والمقامرات المرافقة للخطاب. جوهر مرافعة أوباما القاهرية يُتوقع أن يكون حول الصراع العربي الإسرائيلي وتسويته, أو موضعته على إطار تسوية شاملة وتاريخية ونهائية. في استانبول وقبل عدة أسابيع وجه أوباما خطاباً إلى العالم الإسلامي حمل لغة جديدة وضمنه مقادير احترام وتبجيل للإسلام والتاريخ والمساهمة الحضارية للمسلمين, مؤكدا أن الولايات المتحدة ليس عدوة للإسلام كدين أو للمسلمين كأتباع عقيدة. لكن ذلك الخطاب لم يتضمن "مشروعات" أو "خططاً" لتسوية القضايا الأكثر سخونة مع العالم الإسلامي, وخاصة فلسطين. النسبي الذي أنجزه أوباما حتى الآن على صعيد القضايا الكبرى التي دمرت العلاقات الأمريكية-الإسلامية مهم, رغم أن معظمه إن لم يكن كله يقع في دائرة الخطاب وليس الفعل. تحدث أوباما كثيرا وبفصاحة لا تني تستدعي المقارنة مع تلعثمات جورج بوش الابن اللغوية ومطباته المضحكة, عن نياته صوغ سياسات جديدة. الشيء المهم الذي قام به أوباما هو تنفيس الاحتقان الإقليمي والدولي والتخلي عن خطاب العجرفة والاستعلاء والأستذة على الآخرين مهما كانوا. شرق أوسطياً أعلن عن سقف زمني للاحتلال الأمريكي للعراق, وبدأ مباشرة بالاهتمام بملف القضية الفلسطينية ولم يؤجلها إلى الفترة الزمنية الثانية لولايته. قرار إغلاق غوانتانامو يرصد أيضا في سجل إنجازاته. صحيح أن الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي اندلعت من الولايات المتحدة وبسببها استحوذت عليه وقته, لكن الصحيح أيضا, وشرق أوسطياً, أن هناك مشروعية لكل التخوفات والتقديرات الحذرة إزاء ما يمكن لأوباما حقاً أن يفعله.
أكبر التخوفات تكمن في طبيعة الرؤية العامة للإدارة الجديدة إزاء القضية الفلسطينية, والتي من المفترض أن يكشف عنها خطاب القاهرة: هل ستكون في خلاصتها النهائية رؤية "إدارة للصراع", أو "حل للصراع". إلى هذه اللحظة هناك نوايا باتجاه الرؤية الثانية, لكن في نفس الوقت هناك إشارات متضاربة ومتناقضة, وإعادة إنتاج لسياسة "إدارة الصراع". إلى هذه اللحظة أيضا ليس هناك وضوح كامل بالنسبة للقضايا الكبرى التي تشكل جوهر الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي وخاصة الاستيطان, والقدس, وحق العودة. الإدارات الأمريكية السابقة لإدارة جورج بوش الابن كانت تعتبر الاستيطان "عقبة في وجه السلام", وليس مشكلة ثانوية, أو الأسوأ من ذلك مباركته والمصادقة عليه وعلى "حق إسرائيل" ضم الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية. القدس الشرقية وبحسب قرارات مجلس الأمن التي صاغتها واشنطن في حقيقة الأمر محتلة وهي جزء من حدود 1967, وحتى حق العودة الذي يخيف إسرائيل فقد تضمنته بوضوح تام تلك القرارات. إستراتيجية "حل الصراع" تتطلب حسماً أمريكياً إلى جانب تلك القرارات وإلى جانب تطبيقها, أما إستراتيجية "إدارة الصراع" فتدور حول التهرب من استحقاقاتها والانشغال في البحث عن مسوغات جديدة لعدم تطبيقها, وهو الأمر الذي تم تجريبه خلال العقود الماضية وأنتج ما أنتج.
من زاوية أخرى مختلفة تكمن المقامرات التي ينطوي عليها الخطاب المُنتظر في المُحددات التي تفرضها بشكل غير مباشر العاصمة المُضيفة. القاهرة هي حليف واشنطن وإحدى أهم بواباتها للولوج إلى مسألة التسوية العربية مع إسرائيل, لأسباب معروفة. لكن هناك في مصر تعثر سابقاً قطار الدمقرطة الذي أُريد له أن يعبر عواصم الشرق الأوسط. وفي القاهرة يحتل حديث توريث الحكم قلب السجال السياسي, وتراه الشرائح الأوسع من النخبة والمثقفين المصريين أن السكوت عن الحال غير الديموقراطية في مصر من قبل أوباما سيكون بمثابة النهاية المبكرة لصدقيته التي ما زالت الغالبية تريد أن تفترضها صلبة وتتشبث بها. والأمر في واقعه يتجاوز الحالة المصرية التي خصوصيتها تتأتى من خصوصية مكان إلقاء الخطاب, ليصل إلى كل الحالات العربية وخاصة الحليفة للولايات المتحدة. موقف إدارة أوباما من مسألة دعم الديموقراطية في الشرق الأوسط يختلف عن موقف الإدارة السابقة. نعرف بطبيعة الحال أن موقف تلك الإدارة كان لفظياً, وأن "الدمقرطة" استخدمت كمسوغ ولم تكن فعلاً وحقاً مشروعاً إستراتيجياً, إذ يكفي مقارنة التريليونات التي رصدت للحروب في العراق وأفغانستان بالملايين القليلة التي رصدت "للدمقرطة"! والمشكلة أو بالأحرى الخسارة الكبيرة التي تعرضت لها "الدمقرطة" في المنطقة جاءت بسبب تبنيها من قبل أسوأ الإدارات الأمريكية: قضية عادلة ومحام تعس! لكن الآن الوضع يختلف ولو جزئياً: هناك إدارة ذات وجه مقبول وأمامها فرصة لأن تتبنى سياسات خاصة في مجال دعم الديموقراطية يمكن أن تحظى بتأييد من قبل شرائح واسعة, وترى فيها صدقية وموثوقية. بيد أن المشكلة, أو ربما الخسارة الكبيرة, التي ستتعرض لها الدمقرطة هذه المرة ستأتي من كونها لن تكون مُتبناة حقاً وبقوة من قبل الإدارة الحالية. فالمعضلة التي تواجهها إدارة أوباما, وتنعكس أيضاً في النقاشات الأكاديمية والثقافية والسياسية البعيدة عن أهداف أي سياسة خارجية غربية, تكمن في المواءمة بين أطروحة "احترام" الإسلام والمسلمين وقيمهم وعاداتهم, ومعارضة أنماط الاستبداد في الحكم التي تسم غالبية أنظمتهم السياسية. أو بلغة أخرى رسم الخط الفاصل والدقيق بين احترام الخصوصيات الثقافية واستغلال مقولة تلك الخصوصيات كمبرر لرفض أي انفتاح ديموقراطي أو تعددية سياسية أو حداثة سياسية على قاعدة أن ذلك كله منتجات غربية مرفوضة.
وهكذا يبدو خطاب أوباما القادم مقامرة من نوع خاص وهي محاولة تقديم معالم "صفقة شاملة" يتم من خلالها الشروع في تسوية حقيقية ودائمة في المنطقة, تبرر تأجيل فتح ملف دعم الديموقراطية. من المؤسف بطبيعة الحال فرض هذا الفصل التعسفي بين الملفين, وتأجيل أحدهما لحساب الآخر, أو على الأقل هذا ما يبدو حيث لا شهية مفتوحة عند الإدارة الحالية لفتح الملفين في آن معاً. والسؤال الصعب هنا, والحقيقي جداً إن لم يكن الأكثر احتمالية, هو ماذا سيحدث لو أن هذه المقايضة المُستبطنة فشلت, أي أن مشروع الحل الشامل (الإقليمي والذي يتضمن حل الأزمات مع إيران) لم ينجح. عندها لا نعود إلى المربع الأول فحسب, بل ربما تفتح الأبواب على مجاهيل جديدة كلها أسوأ من بعضها البعض.