بقلم : رشاد أبو شاور ... 03.06.2009
لاوصف لهذا الذي حدث في قلقيلية، وما سيتبعه، إن لم يوقف نهائيّا، سوى كلمة واحدة: الانتحار!
وهذا الانتحار ذاتي، بأيد فلسطينيّة، وهو نحر لقضية، وشعب عجز كل الأعداء عن نحره.
وجوم، وحزن، وغضب، هذا الذي رأيته في وجوه الفلسطينيين الوافدين إلى العاصمة النمساويّة فيّنا، من كل بلدان أوربة، للمشاركة في مؤتمرهم الأوّل، والذي انعقد تحت شعار: نحن نحيا لنعود...
وهؤلاء كفاءات، وطاقات، وخبرات متراكمة، وهم رغم بعدهم الجغرافي يحملون هّم القضيّة الفلسطينيّة، ويتشبثون بحّق العودة، ويربون أبناءهم وبناتهم على حب فلسطين وطن آبائهم وأجدادهم.
كنت مع هؤلاء في فينا، عندما صدمنا النبأ المفجع، والمفزع، عن مداهمة بيت يكمن فيه اثنان من قادة القسّام العسكريين، مطلوبان وملاحقان منذ سنوات من قوّات الاحتلال.
قُتل القياديان، وثلاثة من منتسبي الأمن، ومواطن فلسطيني هو صاحب البناية، وبترت يد زوجته!
نتيجة الاشتباك كانت مأساويّة، وبرهنت على أن (الحوار) بين الطرفين لن يؤدي إلى المصالحة، وأنه لا أمل في وحدة وطنية تجمعهما مع فصائل المقاومة، تضع حدّا للصراع العبثي، وتخرج شعبنا من المأزق القاتل.
لم تعد كلمات التأسي على ما يحدث تكفي، فهي لا تؤثّر في عقول وقلوب المتصارعين، فالسلطة تمضي في الرهان على الإدارة الأمريكيّة، وتنسّق أمنيا مع الاحتلال، وأجهزة الكيان الصهيوني الأمنيّة، وحماس تقبض على قطاع غزّة، وحتى الآن لا تريد أن تُعيد النظر في صراعها على السلطة.
القوّة التي داهمت البيت في قلقيلية مرّت على حواجز الاحتلال التي سهلت لها المرور، متمنية لها التوفيق في القضاء على (العدو) المشترك!
عناصر القوّة الأمنيّة رأوا أرضهم التي تلتهمها المستوطنات، فلم تؤثر في نفوسهم الحواجز، ولا الجدار، ولا ضياع الأرض، ولا المهانات التي تلحق بشعبهم على تلك الحواجز، ومع ذلك فهم يحملون اسم ( الأمن الوطني).. أمن وطني لمن؟!
هؤلاء لا يتساءلون، كما هو واضح، عن مهمة جهاز أمن وطني فلسطيني، فهم مُسحت عقولهم ونفوسهم، بإشراف الجنرال دايتون، وحقنوا، فباتوا يرون في كل من يحمل السلاح لقتال الاحتلال عدوّا يريد تخريب مسيرة السلام!
وهم رُبّوا على أن يروا في (إسرائيل) صديقا وشريكا في عملية السلام!
هذا ما أنجزه الجنرال دايتون، وما عملية (قلقيلية) سوى التعبير العملي عن ثقافة زُرعت في عقول ونفوس أولئك الذين أطلقوا الرصاص على مقاومين ينتميان للقسّام.
هل يسمح جهاز الأمن هذا لمقاومين لا ينتمون لحماس بحمل السلاح، والتصدي لجيش الاحتلال وقطعان المستوطنين؟
هنا أتوقف لتقديم جزء من شهادة أحد قادة كتائب القدس التابعة للجهاد، والتي لم تشارك في معركة غزّة ضد قوّات السلطة وأجهزتها الأمنية، والتي سعت دائما لتوحيد الجهود ورّص الصفوف في وحدة تضم من يفترض بهم أن يقاوموا الاحتلال. فبحسب تصريح قرأته على (فلسطين اليوم)، اتهم (أبو القسّام) السلطة إلى جانب العدو الصهيوني، بشّن حرب لتصفية المقاومة، وأن عمليات لم يُعلن عنها قبل عملية قلقيلية، استهدفت مقاتلي كتائب القدس، وغيرها...
ثقافة المطاردة، والقتل بدم بارد، وبلا مبالاة، رأيناها في المشاهد التي نقلتها الفضائيات، لجنرال من الأمن الوطني هذا، وعناصره، والتي أطلقها بعنجهية مسؤول التنسيق والارتباط مع الجانب (الإسرائيلي)، مبررا عملية المطاردة وقتل القياديين القسّاميين، وتصفيتهما، بتهمة تهديد الاتفاقات الأمنيّة والتفاهمات مع الجانب الآخر (إسرائيل)!.
منطقة جنين، وطولكرم، تحديدا أنجبت أبطالاً هم الذين خاضوا معركة مخّيم جنين، ولذلك ركّز الجنرال الأمريكي الصهيوني دايتون كل جهده على تلك المنطقة لكسر شوكة المقاومة، وزرع ثقافة الصداقة مع (إسرائيل)، والحقد والكراهية على أي مقاوم، حتى لو كان من كتائب الأقصى الفتحاوية، وهذا ما حدث في نابلس، وشمال الضفة .
في نهاية ثورة فلسطين الكبرى 36-39، وحين عجزت بريطانيا عن كسر شوكة المجاهدين الفلسطينيين، لجأت لتشكيل فصائل (السلام)، فسلحتها، ومولتها، ودفعت بها لتطارد وتغتال الثوّار، ولقد أثمرت تلك الخطّة، فكانت أحد عوامل تدمير الثورة الفلسطينيّة ذاتيا.
هذا ما يعيد صياغته الجنرال دايتون، وما برع به حتى اللحظة، وربّما ينجح في جّر الفلسطينيين إلى مذبحة داخلية، تنتهي بتبعية بعضهم، وبحجة الحفاظ على الحقوق الفلسطينيّة بالاعتدال والبعد عن التطرّف، وتكون النهاية تمكين الكيان الصهيوني من بسط الهيمنة على كل فلسطين، وإنجاح مخططات نتنياهو وغيره من قادة الكيان الصهيوني، بحشر الفلسطينيين في معازل، وتوظيف عملاء يديرون شؤونهم اليوميّة، و..دفع الألوف من شبابهم للهجرة، بحيث ينتهي وقود المقاومة!
ماذا على حماس تحديدا أن تعمل؟!
أنا لا أعوّل على السلطة، وأرى أنها لن تتراجع عن خيارها الوحيد المعلن، خيار المفاوضات، والذي يستند إلى إنهاء أي شكل من أشكال المقاومة، والسير وراء الوعود الأمريكيّة، وعود أوباما، كما من قبله وعد بوش بالدولة، و..الاستعداد الدائم لمحاورة قادة الكيان الصهيوني، وامتداح بعضهم، رغم كونهم جميعا يتنافسون في نهب أرضنا، وتدمير قدسنا، وتيئيس شعبنا...
قبل أيّام قرأت تصريحا لأبي علاء قريع يتحسّر فيه على حكومة أولمرت- ليفني، لأنها برأيه كان يمكن الوصول معها إلى السلام!
أولمرت عمدة ( أورشليم)، الذي وضع خططاً ونفّذ عمليات الاستيلاء على القدس، وهدم الأحياء، ومصادرة البيوت..يتحسّر عليه أبوعلاء قريع!
ردّا على خيار السلطة لا يكفي أن تعلن حماس أنها لن تعترف بالكيان الصهيوني، فهذا لا يعفيها من الدور الذي عليها أن تقوم به، والذي يبدأ من مغادرتها لخيار الصراع على السلطة، والتحرّق لأخذ دور البديل في التفاوض، والسعي لاسترضاء الأمريكان والأوروبيين، بطرحها القبول بدولة في حدود 4 حزيران (يونيو)!.
على حماس أن تنهي هيمنتها على قطاع غزّة، وأن تخطو جديّا لتشكيل قيادة وطنية موحدة في القطاع، تضمها مع الجهاد، وفتح في القطاع، والشعبيّة، والفصائل المقاومة، والديمقراطية ـ إن وافقت ـ وتأخذ هذه القيادة دورها جديا في إدارة شؤون الناس في القطاع، لتنتهي أوهام السلطة، والحكومة المنافسة على الوهم.
هذه الخطوة الجديّة الكبيرة حتما ستمهد الطريق للخروج من المأزق الفلسطيني بتكريس نهج المقاومة، وتجاوز مؤامرة دايتون، وإسقاط ثقافة العجز والمفاوضات التي تنهجها السلطة.
من يدعون الحرص على القضية، وعلى القدس، وعلى حّق العودة، وعلى رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني، آن لهم أن يُقدموا رؤيتهم بوضوح لشعبهم، وأمتهم، وأن يُنهوا حقبة الصراع والتنافس على نيل الرضى الأمريكي والأوروبي...
جريمة قلقيلية صادمة لشعبنا محبطة لكّل من يتعاطف ويتضامن مع شعبنا، ولكنها لن ترجّح كفة الميزان لحماس، فهناك جرائم اقترفت أيضا في القطاع، ومشهد صلاة الشكر التي أداها من اقتحموا المقّار في غزة، بعد أن وجهوا الرصاص إلى صدور و(أرجل) أخوة السلاح، لن تغيب من الذاكرة، ولن يخفف من وطأتها سوى إنقاذ وحدة شعبنا في الميدان، والعودة إلى روح شعبنا المبدعة في الانتفاضتين.
إمّا انتفاضة ثالثة تنهي حقبة الصراع على السلطة، وإمّا دوّامة اقتتال ستستمر في الضفة والقطاع، تأخذنا إلى انتحار ذاتي، وزره يقع أولاً على من يعي فداحة هذه النهاية، ومن يحرص على فلسطين وشعبها، ولا يبادر لتفويت الفرصة على من يدبرون المكائد لتوصيلنا إلى نهاية انتحاريّة...