بقلم : رشاد أبو شاور ... 10.06.2009
عادت مئات الأسر الفلسطينيّة في غزّة إلى الخيام، بعد ستين عاما من النكبة، وبعد عشرات الأعوام من مغادرة حقبة الخيام إلى بيوت طينيّة، وغرف إسمنتيّة، وشقق يمكن اعتبارها مرفهة قياسا بما كان في السنوات الأولى للنكبة.
في سيرة أسرتنا (السكنيّة)، أننا عشنا في المغاور والكهوف المحيطة ببلدة بيت جبرين، بعد أن غادر أهلنا بنا قريتنا ذكرين، عندما استهدفتها هي والقرى الصغيرة المجاورة هجمات العصابات الصهيونيّة.
ومن بعد استضافتنا أسرة في بيت جبرين، فقاسمناها غرفها، وحوش الدار مع أسر كثيرة.
ولمّا ارتحل أهلنا بنا إلى الخليل أقمنا أيّاما تحت أشجار الزيتون، وأشبعنا بطوننا الفارغة دائما بشيء من (بركة) الحرم الإبراهيمي، وهي جريشة قمح اعتاد إعدادها القائمون على الحرم.
كانت قريتنا تزرع عشرات الدونمات قمحا لإبراهيم الخليل حول مقام (أبو عمران)، ومن بعد تحصدها، وتدرسها، وتملأ بها عشرات الأكياس، وترسلها إلى الخليل.
انتقلت بنا أسرتنا إلى (جورة بحلص) في طرف الخليل، بين الكروم، وكان الطقس شتاءً، وبرد الخليل كما كان عمّي يصفه: يقّص المسمار..فما بالك بأجسادنا الطريّة شبه العارية التي لم يكن معدنها يشبه معدن المسمار الذي يقّصه برد الخليل؟!
كنّا نحن الصغار نتسابق بأقدامنا الحافية، وسيقاننا العارية، ونحن نخوض في الطين بين دوالي العنب، مرتجفين، وأسناننا تصطك، بحثا عن حبّة عنب، أو خصلة زبيب منسيّة، ولم يكن البرد الذي يقّص المسمار يوقف سعينا المحموم لحبّة عنب حلوة المذاق، وإن لم تكن تُشبع.
بين قرية الخضر وبلدة بيت لحم أقمنا في خيام وقتنا حرّ الصيف، لكنها لم تحم أوصالنا من البرد الذي يقّص العمر، لا المسامير فقط.. وما أدراك ما برد بيت لحم، وجوارها!
من هول شتاء بيت لحم هرب بنا أهلنا إلى (أريحا) فنعمنا بشتاء تنزل علينا أمطاره بردا وسلاما ودفئا لذيذا، بحيث اننا كنّا نتقافز ونحن نردد:
أمطري وزيدي على قريعة سيدي
سيدي في المغارة
ذبح قطّة وفارة
أترون لزوم القافيّة ماذا يفعل؟ ذبح قطّة وفارة ..لماذا؟! لكنه مفهوم أن سيدي ـ يعني جدّي ـ في المغارة، لأنه يحتمي بها من الأمطار التي زخّت على (قرعته)، أي صلعته.
راحت بهجة الشتاء بمطره الدافئ الذي كان ينزل خيوطا منعشة، في حين تشرق الشمس الناعمة ـ ما أحلى وأمتع شتاء أريحا، لمن عاشه قبل احتلالها، وقبل أن تخنقها المستوطنات، والحواجز ـ وهجم علينا حر لافح، يسيح المخ و..المسمار، فهرب بنا أهلنا إلى الدهيشة من جديد.
تساقط الثلج، وأطارت الرياح الخيام من فوق رؤوس أسر تلتصق ببعضها لتستدفىء، فلم يرحمها شتاء هادر بطوفانه الذي أغرق النيام، وانتزع من فوق أجسادهم المقرورة أغطيتهم الرثّة.
كان لا بدّ من العودة إلى أريحا، ومخيّم النويعمة من جديد..فالشوب ـ يعني القيظ ـ أرحم من شتاء بيت لحم الجميلة موقعا، وأبنيةً، وحقولاً.
أقاربنا في مخيّم النويعمة، أعدوا لنا غرفتين، واحدة لأسرة عمّي، وواحدة لأبي ولي ولجدتي.. هذه أسرتنا، بعد أن دفنت أمّي وشقيقتي في قريتنا قبل التهجير!
انتشرت الأبنية الطينيّة في المخيّم، وقد برع في دق الطوب امرأة ورجل، المرأة هي المرحومة (لولية)، أي لؤلؤة ـ ووالله إنها تستحق هذا الاسم، فهي نحلة عمل ـ التي فتنتني شخصيتها، فكانت شخصية رئيسة في روايتي (العشّاق)، وهي التي حملت اسم (أم حسن).
الرجل كنا نطلق عليه (جوز) ـ أي زوج ـ القبرصيّة، لأنه متزوج من قبرصيّة.
على مدى الأعوام من الحفر، والجبل ـ أي مزج التراب بالماء والتبن ـ برجليه، اعوجّ ظهره، واحدودب حتى صار يظهر دائما وكأنه يكاد يهوي على جبينه، لا من شدّة الخشوع، ولكن لأن جسده صار ينحني عاما بعد عام على الأرض التي حفر فيها بـ(طوريته) وفأسه، حتى صنع هو والمرحومة شريكته (لولية) حفرة كانت تمتلئ شتاءً بمياه تجعل منها (بركة)، تكاد تكون بحيرة صغيرة .
الطوب النيئ الذي كانا يُعدانه، كان يُشوى تحت شمس أريحا الشرسة في أيّام قليلة، ثمّ يُنقل لتبنى به غرف متواضعة، تعيش فيها أسر من قرى فلسطينيّة، بانتظار يوم العودة.
عام 67 وإثر هزيمة حزيران/ يونيو غادرت أسر كثيرة مخيمات أريحا: عقبة جبر، عين السلطان، النويعمة، العوجا، واتجهت شرقا، وعبرت نهر الأردن (الشريعة)، ومن جديد أقامت في العراء، مكررة سيرة اللجوء من جديد، ثمّ في برّاكيات لفّقها من ارتجلوا (مخيّم البقعة) على طريق جرش.
بعض الأسر أقامت في مدارس وكالة الغوث التابعة لمخيّم (الوحدات)، في خاصرة العاصمة الأردنيّة عمّان، وبعضها علمت بوجود وحدات سكنيّة معدّة لنقل سكّان تجمّع يحمل اسم مخيّم الجوفة، فانقضت عليها، وهكذا ظهر مخيّم (النصر) الملاصق لجبل النصر في العاصمة، والذي سُمي في ما بعد (حي الأمير حسن). بعض الأسر استقرّت في مخيّم الكرامة غير بعيد عن شرقي نهر الأردن، في أغوار الأردن الشرقيّة، وفي بيوت طينيّة، ولكن المخيّم تعرّض للقصف، وغارات الطائرات التي استهدفت القواعد الفدائيّة الأولى، فاضطرت الأسر للهجرة من جديد...
عندما تعرض مشاهد لأهلنا في غزّة ممن لجأوا من جديد للخيام، بعد (محرقة) غزة الفسفورية، وأرى الأطفال وهم يتحركون ذاهلين حول تلك الخيام، وفي عيونهم أسئلة تنقلها عيون الكاميرات، أود لو أُجلسهم حولي، وأروي لـــــهم رحلة الجيل الذي أنتمــي إليه، وهو جيل النكبة الأوّل ...
أي جيل هم، هؤلاء؟ الثالث، أم الرابع؟!
في مخيم الدهيشة، وعندما سقط الثلج علينا، لم أكن أعرف ما هو الثلج الأبيض الناصع الممتد في حقل لا نهاية له، لذا اندفعت عندما شققت باب الخيمة المخروطيّة الشكل، والتي بابها قطعة قماش رقيقة تسدل لتواري من في جوفها سترا لهم، لا حماية، وركضت في حقل الثلج، وما هي إلاّ ثواني حتى ارتفع صياحي طالبا الإنقاذ، وهكذا اكتشفت مبكرا أن الثلج ليس صديقا للاجئ الفلسطيني، وأن بياضه المسالم ليس حنونا على الأجساد العارية، والأقدام الحافية.
تمّ إنقاذنا بنقلنا إلى مساجد بيت لحم، و..بعد سنوات عرفت أننا وضعنا في مسجد (عمر بن الخطّاب) المواجه لكنيسة المهد.
من هنّ الممرضات اللواتي كنّ يأتين لنا بالماء الساخن لتدفئة أوصالنا، وبالطعام لتدفئة أحشائنا؟
كلما قرأت قصيدة شاعر فلسطين الكبير إبراهيم طوقان:
بيض الحمائم حسبهنه
أني اردد سجعهنه
رمز السلامة والوداعة
منذ بدء الخلق هنّه
أحسب أنه عناهن بقصيدته الجميلة النبيلة الإنسانيّة تلك...
وبعد: ماذا أقول لأحبتي أطفال غزّة؟
لا البرد القارس، ولا الأوحال التي خاضتها أقدامنا، ولا الجوع الذي كان يحرمنا من النوم، ولا الأمراض التي تفشّت، ولا هرب أهلنا بنا من مكان إلى مكان، ولا ملاحقة الطائرات لنا، ولا قتل آبائنا وهدم بيوتنا وسرقة حقولنا، انتزع فلسطين من أرواحنا، فكل هذا جعلنا أقوى من الفولاذ، وأمضى من السيوف، و.. أنتم يا أحبتي، أراكم أكثر صلابة منّا، فأنتم تعمدتم بالفسفور، وبهرتم الدنيا بمعدنكم الإنساني، برهافتكم، بوعيكم، بعمق إيمانكم بالعودة لقرى ومدن من أنجبوكم...
أحبتي ..مع عمكم توفيق زيّاد أخاطبكم:
أبوس الأرض تحت نعالكم
وأقول أفديكم