بقلم : د. فيصل القاسم ... 14.06.2009
لا شك أن العنوان أعلاه محبط للغاية، لكنه مع كل أسف، حقيقة واقعة لا ريب فيها. ويكاد المثل العربي الشهير: "الفعل لذياب والصيت لأبو زيد" ينطبق حرفياً على الوضع الفلسطيني.
لقد خاضت حركة المقاومة الإسلامية على مدى ثلاثة وعشرين يوماً حرباً ضروساً ضد واحدة من أعتى القوى العسكرية في العالم، وأبلت بلاء حسناً رغم قدراتها العسكرية المتواضعة، ناهيك عن أن رجالها وأهلها في قطاع غزة تعرضوا لمحرقة نازية بكل المقاييس، فسقط ألوف من الشهداء والجرحى، ناهيك أن أهالي غزة خسروا البنية التحتية للقطاع من مدارس ومستشفيات وطرق ومراكز حيوية ومحطات طاقة وغيرها الكثير تحت تأثير القصف الإسرائيلي الهمجي والعشوائي. ولا ننسى ألوف المنازل التي دمرتها إسرائيل فوق رؤوس أصحابها، بحيث أصبح الوضع في غزة كارثة إنسانية رهيبة بكل المقاييس. مع ذلك فقد خرجت المقاومة من معركتها التاريخية مع إسرائيل صامدة. لكنها بكل صراحة، تعرضت لهزيمة نكراء أمام خصمها الفلسطيني، المتمثل بسلطة رام الله.
لقد ظن الشارع العربي أن السلطة الفلسطينية قد انتهت إلى غير رجعة بسبب مواقفها أثناء العدوان الصهيوني على غزة، فمن المعلوم أن قوات الأمن في الضفة الغربية منعت الفلسطينيين حتى من مجرد تنظيم مظاهرات للتضامن مع أشقائهم في قطاع غزة، ناهيك عن مساندتهم عسكرياً. وقد تعرض المحتجون على العدوان الإسرائيلي في الضفة إما إلى القمع أو السجن؛ بل ذهب أحد عتاولة السلطة"التاريخيين" إلى أبعد من ذلك عندما انتقد إسرائيل لوقفها الهجوم على قطاع غزة.
لقد ساد انطباع عام في العالم العربي بأن السلطة الفلسطينية ستكون خجولة جداً من أفعالها فيما بعد، ولن تكون قادرة بعد العدوان حتى على مجرد الظهور أمام الناس بسبب مواقفها المخجلة أثناء الحملة على غزة. لكن هيهات، فما أن انجلى غبار الحرب حتى ظهر رئيس الوزراء الفلسطيني ليطالب بكل تبجح بتمرير أموال إعادة إعمار غزة عبر السلطة.
أما رئيس السلطة، فظهر على الشاشات وكأن شيئاً لم يحدث، وراح يتبختر يمنة ويسرة، ليشد الرحال إلى أوروبا، حيث تلقفته العواصم الغربية بحفاوة بالغة، ولا أدري مكافأة على ماذا، ثم استقبله البرلمان الأوروبي استقبال الفاتحين، فألقى خطاباً نارياً تناقلته كل وسائل الإعلام، ثم راح الإعلام الغربي يلمعه أيما تلميع، ويشيد بحكمته البالغة، ويعيد الهيبة إليه بطريقة دعائية، وكأنه المنتصر في الحرب الأخيرة. وما لبث أن زار تركيا، ليستقبل أيضاً كأحد أهم زعماء الشرق.
وعندما عُقدت قمة الكويت الأخيرة، ظهر عباس كبطل زمانه وهو يتصدر الصفوف الأولى بجانب كبار الزعماء العرب. وكان قبلها طبعاً قد ظهر إلى جانب الرئيس الفرنسي وغيره من كبار الشخصيات العالمية في مؤتمر شرم الشيخ.
وقد ظننا، وكل الظن إثم هنا، بأن حركة المقاومة ستتولى عملية إعادة إعمار القطاع، خاصة وأنها ذادت عن حماه، وتكبدت كماً هائلاً من الخسائر المادية والبشرية. لكن خافيير سولانا المنسق الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي أعلنها على رؤوس الأشهاد أن السلطة هي التي ستشرف على إعمار غزة شاء من شاء وأبى من أبى، بالرغم من سجلها الفظيع في نظافة اليد. وقد شاهدنا رئيس الوزراء الفلسطيني التابع لرام الله يتصدر الصفوف الأولى في مؤتمر شرم الشيخ العالمي لإعادة إعمار غزة إلى جانب وزيرة الخارجية الأمريكية، والرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء الإيطالي والرئيس المصري. لم تـُدع حماس طبعاً، فحضر خصمها ليظهر للعالم أن المقاومة تهدم وهو يعمر. وليس أمام حماس أن تفعل شيئاً سوى أن تمنع تمرير الإعمار عبر السلطة، مما سيجعلها تبدو في أعين العالم أنها تزيد في معاناة سكان القطاع، وهو ليس في صالحها.
لقد نجحت أمريكا وإسرائيل وعرب الاعتدال في تعويم السلطة الفلسطينية دولياً مرة أخرى بعد أن سقطت سقوطاً مريعاً في أعين الشارعين الفلسطيني والعربي، وحتى الإسلامي. وعاد رئيسها ينتقل من عاصمة عربية إلى أخرى ليمشي فوق السجاد الأحمر. وعاد بعد كل مواقفه ممثلاً للشعب الفلسطيني الذي كان يتفرج قبل أسابيع فقط على إبادته في قطاع غزة ببرودة عز نظيرها. أما المقاومة وأهلها فقد غدوا كالأطرش في الزفة لا يشاركون في كل ما يحدث من تحركات عربية ودولية في زمن ما بعد العدوان على غزة.
لو كان هناك مجتمع دولي وعرب يحترمون أنفسهم، لما عملوا على إعادة تأهيل سلطة شاركت بشكل مباشر وغير مباشر في العدوان على شعبها على مرأى من العالم. لقد انتظر الكثيرون أن تلقى تلك السلطة ورموزها العقاب الذي تستحقه سياسياً وقضائياً بعد العدوان على غزة، فإذا بها تعود إلى الواجهة مظفرة ومكللة بالغار بدلاً من العار.
آه.. كم كنا مخطئين عندما ظننا أن المستقبل للمقاومة الفلسطينية، وأن اللعنة ستكون لخصومها.. هاهم ديناصورات السلطة يصولون ويجولون، ويتبخترون، ويتصدرون الشاشات والمؤتمرات، بينما حسب المقاومين أن يلعقوا جراحهم.