أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
زمن سقوط الأخلاق !!

بقلم : رشاد أبو شاور  ... 17.06.2009

اليوم 15 حزيران (يونيو)، ولد فيه كثيرون على هذه الأرض، ومات فيه كثيرون ووريت أجسادهم الثرى، وتركوا وراءهم قلوبا مفجوعة برحيلهم، فندبوهم بلغات شتّى من لغات البشر، وبلغة واحدة توحّد المكلومين هي لغة الحزن.
أنا ولدت في هذا اليوم، وصباحا ابتدأته بتلاوة الفاتحة، وبالدموع في العينين والقلب، وبنواح الروح، أنا وزوجتي...
لم نغرس شموعا في كعكة تتحلّق حولها أسرتي الصغيرة، ولم يتوافد الأصدقاء والأقارب بالهدايا، ولم يغن أحد لي: هابي بيرث داي تو يو رشاد. ..
لست آسفا على فقدان المسرّة الصغيرة، فأنا لم أعتد عليها لأفتقدها، ويضاف هذا العام إلى الحزن أن قلبي يحترق، تماما كقلوب ملايين الفلسطينيين...
تلوت الفاتحة أنا وزوجتي لروح اللواء الركن نصر أبو شاور، وزميله العقيد أبوالفهد القيسي، وللمجهولين الذين لا ينساهم ذووهم، ممن سقطوا غيلةً وغدرا قبل عامين هناك في غزّة.
ولأنني قرأت خبر اغتيال العضو في حماس (عمرو)، تحت التعذيب في سجن الخليل ـ سجن السلطة، وليس العدو المحتل! ـ فقد تلوت الفاتحة أنا وزوجتي على روحه، وعلى أرواح من قُتلوا في سجون الإخوة الأعداء.
هناك قتلة، وهنا قتلة، والمقتولون فلسطينيّون، والقتلة فلسطينيّتهم زائفة، مشوهة، كاذبة، مدّعية، لا انتماء حقيقيا لها.
في هذا اليوم 15 حزيران (يونيو)، وأنا أرى وفدين من حماس وفتح يجتمعان في غزّة ورام الله، أقول بملء الفم: شعبنا بلا قيادة، ولا مرجعيّة، وهذان الطرفان أتهمهما بأنهما ضيّعا سنوات على شعبنا في التيه، واستنفدا طاقته في معارك لا مجدية...
أتهم من خيارهم أوسلو بأنهم ورّطوا شعبنا في طريق الندامة، وأنهم لا يحترمون شعبنا، ولا يقيمون له وزنا، ويجهلون تراثه الثوري، وأنهم بلا روادع، وأنهم مُنبتون ومارقون، وأنهم فتنوا بمصالحهم وامتيازاتهم، وأنهم لا يملكون شجاعة التراجع عن الخطايا والذنوب التي اقترفوها.
في هذا اليوم الذي ولدتني أمي فيه فلسطينيّا، فإنني أتهم من ادّعوا بأن فلسطين وقف إسلامي، وأنهم مع تحريرها بالمقاومة من نهرها لبحرها، ثمّ فازوا في الانتخابات بفضل هذا الخطاب، وعمليات المقاومة والاستشهاد، قد بدّلوا تبديلاً، فإذا بهم يصارعون على سلطة لا سُلطة لها، وينكصون عن المقاومة، ويعيدون سيرة من سبقوهم في عناق الوفود الأوروبيّة، ومغازلة الإدارة الأمريكيّة، والاستعداد للقبول بدولة في حدود 4 حزيران (يونيو)...
أتهم الأوسلويين بتضييع القضيّة، وأتهم من ينافسونهم على السلطة بالحيدان عن طريق المقاومة، وإغلاق هذا الطريق على من يريد أن يقاوم.
هذان الطرفان: اجتماعاتهم في رام الله وغزّة، وفي القاهرة، لا تعني شعبنا، فالطرفان أدخلا شعبنا في المأزق الخانق...
أي طرف يريد أن يكون البديل عن خط أوسلو لا بد أن يكون بديلاً في الميدان، ببندقيته، وخطابه المقاوم المتصدّي لتصفية القضية بتهويد القدس وتوسيع الاستيطان مُلتهما ما تبقّى من الأرض، ويوحّد جبهة المقاومة، ولا يرتهنها، ويختطف بعض الشعب، ويقدم المثل الأخلاقي، ولا يفرض هيمنته على بعض الفلسطينيين بقوّة السلاح، في حين نرى السلاح هذا معطّلاً عن مواجهة الاحتلال...
تأتي المقاومة، أي مقاومة، للشعب، أي شعب، بالضوء الذي يهدي ويخرج من الظلمات إلى النور، بالقوّة الكامنة في أعماق الشعب الذي يبدو خانعا سلبيّا، فإذا به قوّة عاتية جبّارة، بوحدة الطاقات، والخطى، وعلو الهمّة والروح، بأخلاق التضحية والفداء...
حدث هذا يوما ما، حدث في سنوات خلت، رأينا نماذج من القادة، وعرفناهم، أو قرأنا سيرهم. ..
وعرفنا أصحاب النفس القصير، من ربطوا القضيّة بأعمارهم، بطموحاتهم الشخصيّة، بولعهم بالظهور، بالكسب من دماء الشهداء ودموع الأرامل والأيتام.
أنظروا إلى ن جوم الفضائيات، واسألوا أنفسكم: أبهؤلاء تتحرر فلسطين؟ أهؤلاء قادة، ومرجعيّة، وأمثلة تحتذى؟!
كنّا نهتف بفلسطين عربيّة، بأننا بالدم بالروح نفتديها، فإذا بنا ننتكس إلى هتافات سطحيّة ساذجة ـ لا أريد ذكرها ـ فالجميع يعرفها، وملّ منها، فهي لا وظيفة لها سوى إحلال العصبويّة والدروشة في مكان الوعي والمعرفة.
في هذا اليوم 15 حزيران (يونيو)، وأنا أتأمّل ما جاء في خطاب نتنياهو، لم أفاجأ بهذا الخطاب الصهيوني الهجومي، فأمامه قيادات فلسطينيّة تتسابق على نيل الشرعيّة من الإدارة الأمريكيّة، ومن الوفود الأوروبيّة، ومن نُظم عربيّة مهترئة تفتك بشعوبها...
لم أفاجأ بخطاب هذا الصهيوني الذي لا يختلف عن بيريس، ورابين، وباراك، وشامير، وبيغن، وغولدا مائير، ومعلّمهم بن غوريون... فكلّهم خطابهم واحد، بتنويعات كلاميّة تختلف شكلاً، أسلوبا، ولكن الجوهر واحد: لا حقوق للفلسطينيين، القدس عاصمة (الدولة) اليهوديّة، الفلسطينيّون يوطنون حيث هم.. و.. دولة منزوعة كلّ شيء، وأوّل ما هو منزوع منها: الأرض فقط!
ومع ذلك تجتمع قيادات التصارع على السلطة في غزّة ورام الله والقاهرة لتتبادل قوائم السجناء ـ الأسرى ـ في سجون الطرفين الأسيرين في قبضة الاحتلال!
لو أن نتنياهو التهم القدس، وهي التهمت لمن لا يدري، وما أبقى أرضا تحت أقدام فلسطينيي الضفّة، ولو أخذ الأرض المحيطة بالمقاطعة في رام الله، ولو.. لمّا فار دم المفاوضين المحترفين المزمنين، فالمهم أن يبقوا مفاوضين، وتبقى الكاميرات.. وللقدس رب يحميها!
ولو ضاعت الضفّة، ولم يبق منها شبر، وبقيت الحكومة في غزّة ولو محاصرة، فإن الجماعة هناك سيواصلون السعي للاعتراف بهم، والرهان على الاعتراف بهم أوروبيّا وأمريكيّا.
طرفان، واحد أدخلنا في المأزق الكارثي، والآخر لم يُخرجنا منه، ويحاور بالنيابة، ويدير ظهره لمن قاوموا ويقاومون، ولا يسمع سوى صوته.
كلامي صعب، جارح، خشن، ولكنه ـ وأقسم على ذلك ـ ينبع من عقلي، وقلبي، وضميري، ومن حُبي لشعب فلسطين الذي منحني الله شرف الانتماء له ـ ولذا لا أخشى من أين جاءتني الشتائم، أو اللعنات، فأنا أعرف هؤلاء وقد خبرت بعضهم من أيّام بيروت وما بعد بيروت، من أيّام أوسلو وما بعد أوسلو، من بدء الصراع على السلطة وتضييع الأرض، ونشر
اللاأخلاق في العمل الوطني الفلسطيني، والعصبويّة المريضة التي تدفع فلسطينيّا يحمل الكلاشنكوف ـ يا خسارة عليك يا كلاشن، يا من قاتلنا بك في جبل الشيخ، والأغوار، وجنوب لبنان، وبيروت ـ لقتل من يفترض أنه أخوه، ومن يقتل صاحب رأي تحت التعذيب.. فتارة تُحلق اللحى بالأحذية، وتارة يحوّل الفلسطيني معوقّا بإطلاق الرصاص على ساقيه.. تكبير!
هذا هو مقالي الاحتفالي بيوم ولادتي 15 حزيران (يونيو)...
وهذا هو خطابي للشعب الفلسطيني الذي أعرف أنه موجوع، ومفجوع، وغاضب، وحزين، ومقهور، وخزيان.. ممن يُجمعون في رام الله وغزّة والقاهرة بأوامر عمر سُليمان، لا بنداء فلسطين، وصراخ القدس، ونواح الأرض، وآلام أسرانا وأسيراتنا في سجون العدو، ولا بنداء أحمد سعدات من زنزانته الذي يُفترض أن يُذكّر إضرابه بأن أكثر من 11 ألف فلسطينيّة وفلسطيني تُسرق أعمارهم، ويعذبون، ويحرمون من رؤية أبنائهم، وزوجاتهم، وأمهاتهم.. في معتقلات العدو!
من لا يخجلون لا أخاطبهم، ومن لا أخلاق لهم لا أعوّل عليهم، ومن يسرقون مال اليتيم والأرملة والشهيد والأسير ليسوا اخوتي، وفلسطين بريئة منهم...
أنا في هذا اليوم 15 حزيران (يونيو) أجدد إيماني بشعب فلسطين وبعروبة فلسطين من نهرها لبحرها، وبأنها كلها مقدسة لأنها وطننا نحن الشعب العربي الفلسطيني، وبأننا لن نستوطن سواها، ولن نبدلها، ولن نقبل بجنّات الخلد بديلاً عنها...
يا فلسطين: بقي لي القليل من العمر، اللهم فاشهد، فأنا أهبه لك...