بقلم : د. فيصل القاسم ... 8.10.06
من حق الطبقة السياسية اللبنانية الحاكمة، وفي مقدمتها تيار المستقبل بزعامة الشيخ سعد الحريري، أن تمضي إلى آخر الدرب بحثاً عن "الحئيئة". ومن حقهم أن يعدّوا، على شاشة تلفزيون المستقبل، الأيام التي مرت منذ استشهاد رفيق الحريري، حتى لو بدوا وكأنهم يريدون من اللبنانيين والعرب أن يتخذوا من ذلك اليوم بداية روزنامة جديدة للتاريخ، تحل محل التاريخين الهجري والميلادي. ومن حق جماعة الرابع عشر من آذار أن تطالب بأعلى صوتها بملاحقة المجرمين القذرين الذين سفكوا دم رئيس الوزراء الراحل وإقامة محكمة دولية لمحاكمتهم أمام العالم، ومن ثم القصاص منهم بالطريقة المثلى وتمريغ أنوفهم بالتراب وحتى رمي لحومهم للكلاب. ومن حق وليد جنبلاط أن يذكــّر العالم بجريمة اغتيال الحريري في كل مرة يظهر فيها على شاشات التلفزيون، حتى لو كان يتكلم عن ثقب الأوزون أوغابات الأمازون. لا غبار أبداً على هذه المطالب العادلة جداً، لا بل علينا أن نشد على أيدي أصحابها كونهم ناشدي عدالة وطالبي حق.
لكن عقل المراقب يكاد يطير من رأسه عندما يرى أن هذا الهوس الزائد عن حده لدى أتباع الحريري وأزلامه في المطالبة بملاحقة قتلة سيدهم يقابله صمت مريب وتعام فاضح عما قامت به آلة الحرب الصهيونية الفاشية بحق لبنان خلال عدوانها الأخير على البشر والشجر والحجر في بلاد الأرز الجميلة. لقد ظن البعض أن العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان وما خلفه من دمار وخراب وإبادة وأهوال قد يقلل من هوس جماعة الحريري بقضية الاغتيال الشخصي، ويحول أنظارهم إلى ما هو أهم وأخطر بمئات المرات، ألا وهو اغتيال لبنان وتحويل قراه وجسوره ومشافيه وطرقه وضواحيه ومطاراته إلى "أكياس من الرمل" وحصد أرواح وتشويه الألوف من مواطنيه الأبرياء، كما توعد حاخامات إسرائيل وأوفوا بوعيدهم.
لكن حليمة عادت، وبسرعة مذهلة، إلى عادتها القديمة، كما لو أن شيئاً لم يحدث في لبنان، فعادت الجوقة ذاتها للتركيز على مقتل الحريري بشكل مكثف ومريب، مما يجعل حتى الأغبياء يأخذون الانطباع بأن هؤلاء يريدون التستر والتغطية على جرائم إسرائيل وتحويل الأنظار عنها. وأرجو أن لا يكون الأمر كذلك فعلاً. وإذا كانوا غير منتبهين إلى تلك الحقيقة، عليهم إذن أن يصححوا الوضع فوراً، كي لا يبدوا وكأنهم متورطون في تدمير بلدهم والتآمر على شعبهم الذي يدّعون تمثيله في مجلس النواب والحكومة.
لا نريد من جماعة الرابع عشر من آذار أن يهملوا قضية الحريري بأي حال من الأحوال لحساب قضية التدمير الصهيوني للبنان، بل نريد منهم فقط أن يوازنوا بين حماسهم الجنوني للمحكمة الدولية وبين ضرورة الاهتمام بملاحقة التتار والمغول الصهاينة الذين يتوارى هولاكو خجلاً من فظائعهم في لبنان. وكي نسهــّل المهمة على جماعة الحريري نقول لهم: إن المجرمين الذين تسببوا في خراب بلد بأكمله، بما فيها منجزات الشهيد رفيق الحريري العظيمة، معروفون للقاصي والداني، وهم يقبعون في مقر الحكومة الإسرائيلية ووزراة الدفاع تحديداً. ولستم بحاجة للتنجيم والتحقيق مطولاً للتعرف على هوياتهم وعناوينهم ودوافعهم، كما هوالحال في قضية اغتيال الحريري. فلماذا الاهتمام أكثر بجريمة لم يُعرف حتى الآن، حسب تقارير التحقيق الدولي، هوية منفذيها أو حتى دوافعهم التي تتغير من تقرير دولي إلى آخر، بينما يتم التغاضي تماماً عن ألوف الجرائم الإسرائيلية، التي لم تجف دماء ضحاياها بعد، والتي تحتاج التحريك القضائي فقط لاغير.
في حرب لبنان لجأ الجيش الاسرئيلي الى مطاردة أهداف مدنية عن سابق عمد وإصرار باعتراف الإسرائيليين أنفسهم. لقد ارتكب ستاً وثلاثين مجزرة ضد المدنيين في بلدات: الدوير، ومروحين، وعيترون، وصور، وعبّا، والرميلة، والنبي شيت، ومعربون، وصريفا، والنبطية الفوقا، وحّداثا، والنميرية، وعين عرب، وقانا، ويارون، وحاريص، والحلوسية، والقليلة، والجبّين، وبعلبك، والقاع، والطيبة، وعيتا الشعب، وأنصار، وحولا، والغسانية، والغازية، والشياح، وبريتال، ومشغرة، والحيصة (عكار). وكيف إذا أضفنا الى هذا السجل الأسود ضرب الجسور، ومحطات الكهرباء والمياه، والمصانع، والمزارع، والمدارس، والمستشفيات، والطرق الدولية؟
إن دراسة دولية مسؤولة عن حرب لبنان، كما يقول البروفسور اللبناني المخضرم عدنان حسين، تظهر كيف أنها كانت حرباً على المدنيين اللبنانيين. هناك جرائم حرب (استناداً الى اتفاقيات جنيف)، وجرائم ضد الانسانية (استناداً الى نظام المحكمة الجنائية الدولية)، وجرائم إرهابية (استناداً الى ميثاق الامم المتحدة)... وعليه فإن محاكمة اسرائيل على جرائمها ممكنة من الناحية القانونية، من خلال تشكيل محكمة دولية خاصة على غرار المحاكم الخاصة التي شكّلها مجلس الامن للنظر في جرائم مماثلة في رواندا والبوسنة والهرسك وسيراليون. وهناك طريق آخر لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين من خلال محاكم بعض الدول التي تسمح قوانينها بالمحاكمة إذا ما ادعى الطرف المتضرر، أي اللبنانيون، أمامها. وهذا النوع من المحاكم قد ينظر في الجرائم ضد الانسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الارهاب، وجريمة العدوان، والجرائم ضد حقوق الانسان وقواعد القانون الدولي الانساني.
أين جماعة الحريري الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها من أجل مقتل شخص واحد، ويعيــّشون بلاد الأرز في مأتم ماراثوني منذ أكثر من عام حداداً على حادثة اغتيال فردية، أين هم من الجرائم الإسرائيلية الجماعية المفضوحة كعين الشمس بحق بلدهم وشعبهم الأعزل؟ هل رفيق الحريري أكبر وأهم من لبنان كله؟ أعتقد أن الشهيد المرحوم سيتململ في قبره احتجاجاً وسخطاً لو عرف أن "جماعته" تعتبر قضية اغتياله أولى بالعدالة من قضية وطن بأكمله.