بقلم : د.خالد الحروب ... 11.06.2009
يقول العارفون بتاريخ بينالي البندقية للفنون, الأقدم في العالم والمتأسس سنة 1806, بأن فلسطين كانت قد مُنحت موقعا في المكان الرئيسي للبينالي, في منطقة جارديني جنوب شرق المدينة, في ثلاثينيات القرن الماضي. وعندما قامت دولة إسرائيل سنة 1948 واحتلت فلسطين أرضاً, احتلتها اسماً أيضاً فأخذت موقع فلسطين في البينالي. والمتجول في الموقع الرئيسي يرى "بافاليون" إسرائيل مجاوراً لـ "بافاليون" الولايات المتحدة. صديقي الكتالوني ألبرتو, الزائر السنوي للبينالي, ابتسم وتساءل ساخراً: "أتعجب لماذا هذه الجيرة بين البلدين, وفيما إن كانت محض مصادفة". إسرائيل التي أرادت أن تحتل كل ما له علاقة بفلسطين احتلت أيضاً الموجات الإذاعية التي كانت قبل 1948 قد خُصصت إلى فلسطين, وأصبحت تالياً موجات إسرائيلية!
هذه السنة عادت فلسطين إلى البندقية. "بافاليون" فلسطين ليس مكانه الموقع الرئيسي, جارديني, ولا حتى في الموقع الرئيسي الثاني أرسناله, بل خارجهما, كما هي حال بلدان كثيرة انضمت إلى البينالي لاحقاً وبعد أن ضاق الموقع الرئيسي بعشرات الدول ومعروضاتها الفنية. المشاركة الفلسطينية هي نتاج عمل دؤوب ورائع استمر عدة سنوات من سلوى مقدادي, وفيتوري أورباني, ورنا صادق, وأطلق على المشاركة وصف وعنوان مبتكرين: "حدث غير مقصود" (collateral event). عملياً أصبحت هذه المدينة المائية الجميلة التي تحتضنها القنوات من كل الجهات بينالي موسعا. في كل جزء من أجزائها هناك لجوء فني لدولة من الدول يعرض من خلاله فنانوها ومبدعوها آخر ما يبدعون. والتجول سواء في الموقعين الرئيسيين أو المواقع الموزعة في طول وعرض المدينة متعة حقيقية, ورياضة روحية فنية عبر العالم ومن خلال الجانب الأكثر شفافية فيه, الفن والخيال.
الفنانة إيميلي جاسر قدمت أكثر الأفكار جسارة وطموحاً. سبحت في تاريخ مياه المدينة وقنواتها وعادت إلى القرون التي كانت فيها البندقية إحدى نقاط التواصل المتوسطي بين أوروبا والعرب. إيميلي كتبت مساهمة غنية في الكتاب المرافق للعرض الفلسطيني والذي حررته مشرفة العرض وراعيته الأهم سلوى مقدادي. قالت فيها إن التجار العرب عرفوا البندقية لعقود طويلة, وتركوا فيها بصماتهم: لغة, ونقوشاً, وعمارة, وصناعة. والبندقية بدورها تركت بصماتها على المشرق, فقد كانت إحدى محطات الحجيج المسيحي القادم من أوروبا إلى القدس. فقد ازدهرت فيها صناعة السفن التي كانت تنقل الذاهبين إلى البلاد المقدسة. في البندقية أيضا تطورت مهارة طباعة الكتب, وفيها حُفظت كتب ابن رشد وابن سينا, وفيها طبع أول كتاب باللغة العربية سنة 1514 وهو كتاب الساعات. كما أن أول نسخة للقرآن مطبوعة بالوسائل الميكانيكية كانت في البندقية في سنة 1538.
مشروع إيميلي الذي تطلق عليه اسم "ستازيوني", أو محطة, يقوم على إحياء الإرث الثقافي والتواصلي بين البندقية والعرب عن طريق ترجمة محطات أحد أهم خطوط المواصلات المائية في المدينة, وهو الخط الذي يعبر القناة الأطول والأهم في المدينة, التي تتلوى وتحضن أجزاء المدينة على شكل حرف إس بالإنجليزي. عند كل محطة تتوقف القوارب, أو الباصات المائية, ليستقلها الركاب أو لينزلوا منها, تماماً مثل محطات الباصات. تحمل هذه المحطات أسماءً مكتوبة بأحرف إيطالية كبيرة, ومعظمها له مدول تاريخي. تريد إيميلي أن تترجم أسماء هذه المحطات إلى العربية وتكتب الاسم العربي إلى جانب الاسم الإيطالي, لتخلق حالة تواصلية دائمة بين المدينة والإرث العربي فيها. ومن ضمن هذه المحطات "دار الصناعة", "سوق ريتاليو", "القديس زكريا", "بيت الذهب". حتى الآن لم توافق البلدية على فكرة إيميلي جاسر, لكن إن وافقت فستكون البندقية المدينة الأولى في أوروبا التي تحمل محطات مواصلاتها أسماء عربية. كأن طريق الحرير التاريخي يتجدد حداثيا, بين آسيا وقلب أوروبا, والذي يُقال إن البندقية كانت إحدى محطاته أيضا.
خليل رباح قدم فكرة بينالي رواق 3, والتي ترتكز على إحياء جغرافيا خمسين قرية فلسطينية, في الفترة الواقعة بين أول حزيران وآخر تشرين أول هذا العام. والفكرة عمل إبداعي آخر لمؤسسة رواق التي هي إحدى أهم المؤسسات الثقافية الفلسطينية التي تعمل على إحياء وإعادة إعمار ما أريد له يُنسى بعد أن يُسلب. بخلاف الفكرة المعروفة عن أي بينالي حيث يحتضن موقع واحد كبير إبداعات الفنانين ومشاركاتهم التي غالبا ما تكون خارجة عن المألوف من ناحية الشكل والمساحة وحتى التأثير الاستعلائي والذي يستحوذ على الرائي, إن لم نقل يحتله, بينالي رواق 3 وكما يشرح خليل يتنقل بين القرى المعنية المُختارة من سجل رواق لمئات القرى. بمعنى ما هو امتداد وتثوير لفكرة البينالي وشدها إلى اتجاهات جديدة.
تيسير بتنجي من غزة قدم لوحة جميلة جداً وغنية بالخيال تعتمد على استيحاء مكانة زهر "الحنون" في الثقافة الشعبية الفلسطينية. هنا نشاهد فراغا مكعبا كبيرا على شكل غرفة بيضاء أرضيتها مفروشة بكثافة بما يشبه الزهرة الوردية الحمراء. عندما نقترب أكثر نكتشف أن ما أمامنا هو قشور دائرية مكورة لأقلام رصاص يغلب على لونها الاحمرار. نتخيل فورا أولاد المدارس ينهمكون في "بري أقلامهم الرصاصية" للقيام بواجباتهم المدرسية. تتماهى براءة زهر الحنون وبراءة أولاد وبنات المدارس عبر الرمز المزدوج: قشور أقلام الرصاص والزهرة المحبوبة, ويمتد ذلك التماهي مع بياض جدران المكعب. لكن في الواجهة المباشرة للرائي وبعد ارتواء العين بالحنون والبياض نصطدم بمشهد لوحة فوتوغرافية لغرفة كالحة, ارضيتها ملطخة بغبار متراكم أسود, وعلى الجانبين بعض الأخشاب التي تتكئ على جدران الغرفة بلا مبالاة. أيها انفلت من الثاني: الحنون تمرد على سواد الغبار, أم تراها غرفة الغبار تعيد انتشاء الخيال إلى بشاعة الواقع؟ هل جاء الولد الذي برى كل أقلام الرصاص من تلك الغرفة؟ هل يحلم؟
نغادر لوحة تيسير محملين بتلك الأسئلة وندلف إلى ما هو في جوارها. هنا ندخل غرفة محكمة الإغلاق, حالكة السواد, مبطنة الجدران, ليس فيها إلا كوة في السقف تقود إلى ضوء العالم الخارجي. هذه الغرفة القفص لا يريد أحد أن يمكث فيها طويلاً حيث تشعر بأنك في زنزانة انفرادية, وهي فكرة ساندي هلال من بيت لحم وألسندرو بيتي من إيطاليا, وعنوانها "عارض رام الله" (Ramallah Syndrom). هي تكثيف لأسئلة رام الله: أهي واحة حرية؟ ملتجأ الفلسطينيين المغتربين؟ نتاج أوسلو التقسيمي وتجسيد له؟ قفص صغير لحريات مُطاردة؟ أم تحد لكل الحواجز العسكرية التي تحيط بها, وفيها يقاوم الناس نظام الاحتلال بالإصرار على العيش والإقامة؟
لوحات جواد المالحي البانورامية عن مخيم شعفاط في القدس والتي صورها من زوايا مدهشة, أهمها من تلال المستوطنة المطلة على المخيم, ثم من داخل المخيم المكتظ نفسه, سكبت في خيال الزوار جرعة مرارة الواقع الذي يحياه ملايين اللاجئين الفلسطينين. وإلى جواره أعاد شادي حبيب الله التحليق إلى ذرى خيالية أخرى: التوتر الدائم بين ما هو طبيعي وما هو صناعي, أو تصنيع الطبيعي وتطبيع الصناعي, حيث تصبح الروح طريدة ذلك التوتر وتبحث عن تعريفها في زمن الإنهاك المتواصل.
نظلم كل تلك الإبداعات في عجالة عابرة, لكن لنا أن نقول: لو تمتع سياسو فلسطين بنصف ما لدى فنانيها ومبدعيها من العمق والخيال, كما شهد بينالي البندقية, لكانت شموساً ساطعة قد أشرقت في بلادنا منذ زمن طويل. شكرا لهم جميعاً.