بقلم : د.فيصل القاسم ... 21.06.2009
لم تهتم وسائل الإعلام العربية منذ نشأتها إلا بالعموميات والقضايا الكبرى المزعومة متجاهلة كل ما يهم الفرد العربي كإنسان قائم بذاته له استقلاليته وكينونته الخاصة ومتطلباته واهتماماته واحتياجاته الفردية. وقد ساعد وسائل الإعلام العربية على تكريس ثقافة إعلامية عمومية وجود بعض القضايا الكبرى كقضية فلسطين وبعض قضايا التحرر الأخرى التي استغلتها الأنظمة العربية الحاكمة على مدى أكثر من نصف قرن لتحويل أنظار الشعوب عن قضاياها الداخلية الملحة كالتنمية البشرية والإنسانية بما تنطوي عليه من تربية وتعليم وصحة ورعاية اجتماعية ورفاه وإعلام وغيرها من الأمور الحياتية.
لقد نجحت بعض الأنظمة العربية الإسلاموية والقومية في محاربة النزعة الفردية في مجتمعاتها بحجة تحقيق العالم العربي أو الإسلامي الكبير ودمج الأمة من محيطها إلى خليجها. لكن لم تتحقق الوحدة الكبرى التي رهنوا لها الشعوب لعقود وعقود، ولم تتحقق شخصية الإنسان العربي على الطريقة الإنسانية الحديثة بوصفه كائناً مستقلاً محترماً يتمتع بكل مزايا المواطنة التي تنص عليها المواثيق والدساتير المتطورة. لقد ظل الفرد في قاموس الإعلام العربي مجرد تفصيل مهمل لا قيمة له في الخطاب الإعلامي الشمولي الذي طمس إنسانية الفرد لصالح "القضايا الكبرى" قاب قوسين طبعاً، ورمى بالإنسان جانباً بوصفه نكرة ليست ذات قيمة، مع العلم أن المجتمعات القوية لم تتقدم إلا بإنسان محترم مكرّم قوي ذي أهمية وخصوصية.
لقد أصبت بصدمة كبرى عندما وصلت إلى بريطانيا لأول مرة قبل أكثر من عشرين عاماً. فأنا قادم من عالم عربي يبدأ نشراته الإخبارية في الإذاعة والتلفزيون بأخبار القادة وصولاتهم وجولاتهم واستقبالاتهم "الكبرى"، أو بأنباء التطورات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو القضايا العالمية العامة. وقد كنت أظن أنني سأستمع وسأشاهد وسأقرأ أخباراً بنفس الأهمية والضخامة في وسائل الإعلام البريطانية. لكنني كنت مخطئاً تماماً، لا بل مندهشاً إن لم نقل مصعوقاً. فنشرة الأخبار الرئيسية في التلفزيون البريطاني بكل قنواته الحكومية والخاصة تبدأ بخبر عن طفل إنجليزي ضاع في إحدى الحدائق العامة، ولم يعثر أحد على أثر له حتى الآن. وتتضمن تفاصيل الخبر جهود الشرطة وسكان الحي في عملية البحث عن الطفل المفقود. وفي الأيام التالية قد يبدأون نشراتهم الإخبارية بخبر حريق في إحدى المناطق، أو اعتداء على إحدى الفتيات، أو حادث سير أو موت عجوز بسبب البرد، أو قيام مظاهرة للمطالبة بتوسيع حديقة عامة كي يكون فيها مجال أكبر للكلاب كي تلعب وتلهو، أو تطورات إضراب في إحدى المؤسسات للمطالبة برفع الأجور، أو انحراف قطار عن مساره، أو حدوث عاصفة ثلجية في منطقة ما، أو نفوق عدد من الأبقار المصابة بمرض جنون البقر إلى ما هنالك من الأخبار العادية.
ونظراً لتربيتي الشمولية فقد كنت أشمئز كثيراً من التركيز الإعلامي في بريطانيا على هذه الأمور التي كنت أعتبرها سخيفة ومبتذلة. لماذا؟ لأنهم علمونا في بلداننا ألا نهتم بالشؤون التي تهم الإنسان العادي، فهذه في مفهومنا قضايا ثانوية سخيفة لا تستحق الذكر والاهتمام. وكنت أتساءل كثيراً بنوع من القرف: ما أسخف هؤلاء الإنجليز، أليس لديهم أخبار أهم من أخبار المزارعين المضربين أو المدرسين المطالبين برفع أجورهم أو صبي خرج من بيته ولم يعد؟ أليس هناك قضايا أهم ألف مرة من قضية فتاة مخطوفة أو ممثل تهرب من دفع الضرائب أو مجموعة من العمال فقدوا وظائفهم في أحد المصانع البريطانية؟ وكنت أتساءل: لماذا لا تركز وسائل الإعلام البريطانية على قضايا كبرى عامة بدلاً من إبراز قضايا الناس البسطاء العادية؟ لماذا لا تهتم بالشأن العام أكثر من الخاص؟ لقد بقيت لفترة طويلة معتقداً أنني على حق، وأن وسائل الإعلام البريطانية "السخيفة" على باطل، حتى بدأت أتعرف على الأسباب الكامنة وراء تركيز الخطاب الإعلامي في الدول الديمقراطية على الأمور والقضايا الفردية والإنسانية.
لم يكن إبراز الشؤون الإنسانية الخاصة في نشرات الأخبار الإذاعية والتلفزيونية في بريطانيا لأن القائمين على وسائل الإعلام أناس سخفاء لا يقدرون أهمية الخبر الرئيسي، بل لأن أمور المواطنين الخاصة هي أكثر أهمية لهم ألف مرة من كل الشعارات والقضايا الكبرى، وذلك طبعاً عملاً بالمذهب الليبرالي القائم على الفردية والشأن الخاص والاهتمام بالإنسان واحتياجاته ومتطلباته وهمومه وتوجهاته البشرية.
إن إعلامهم يركز على محنة طفل ضائع لأن للإنسان قيمة وأهمية في ناموسهم، لا بل هو أهم شيء في مجتمعهم، فهو أهم من أخبار سياسات الدولة الكبرى وعلاقاتها الخارجية ومخططاتها الإستراتيجية. وكم كنت أتذكر بعض الدول العربية التي كان زعماؤها يتفاخرون ليل نهار بإنجازاتهم "العظيمة" قاب قوسين على صعيد السياسة الخارجية والإستراتيجية المزعومة، بينما كان مواطنهم في الداخل يعاني الأمرّين اقتصادياً ومعاشياً وصحياً وتربوياً.
أما آن الأوان أن يخرج الإعلام العربي من شرنقة "القضايا الكبرى" ويلتفت إلى قضايا الناس بتفاصيلها الصغيرة؟ لقد مل الإنسان العربي من هذا الإعلام المنغمس في الأمور السياسية العامة، وأصبح يتوق إلى إعلام يتناول همومه اليومية الخاصة. فعالمنا العربي يغص بالمشاكل والقضايا الإنسانية المهملة إعلامياً، فلا عيب في التركيز على فضح الروتين الإداري، وتلوث المياه، وموت الآلاف من شرب مياه ممزوجة بالنفايات وبقايا الأسمدة الكيماوية، وأزمة المواد الغذائية، وتدهور الخدمات في المستشفيات، وموت مئات النساء على أيدي أطباء توليد بلا ضمير ولا أخلاق، وفساد صغار الموظفين، وفضح البلديات والقائمين عليها في بعض الدول العربية، ومشاكل المدرسين والطلبة، والأجور وغلاء الأسعار، والبطالة، وفضائح شرطة المرور. ما أحوجنا لإعلام يركز على قضايا البيئة، والازدحام السكاني، والتنكيل اليومي بالمواطن المسكين الذي يواجه ألف عقبة وعقبة قبل أن ينجز أبسط معاملة.
هل سنعيش لنشاهد نشرة أخبار عربية يكون فيها الخبر الأول عن اختطاف سائق عربي في العراق، أو اختفاء مواطن في ظروف غامضة. أم أن أخبار المواطنين أسخف من أن يتناولها إعلامنا؟ لقد شبعنا من أخبار الاستعمار والإمبريالية والصهيونية والتحرر والسياسات الخارجية "العملاقة" والمشاريع الـُهلامية الفضفاضة. ليتنا نوجه وسائل إعلامنا من أجل خدمة الإنسان العادي، واحترامه، وتحريره من الظلم والحيف الواقع عليه من أولئك الذين تلاعبوا بإعلامنا وسخرّوه لقضايا كنا نعتقد أنها كبرى فإذا بها للضحك على ذقون الجماهير وإلهائهم بها عن همومهم وقضاياهم الإنسانية الخاصة التي أهملتها معظم أنظمتنا. فلننزل بوسائل إعلامنا من عليائها المصطنعة والكاذبة إلى حضيض المجتمع حيث المشاكل والقضايا الحقيقية والجوهرية أو ما أسماها مكسيم غوركي في مسرحيته الشهيرة "الأعماق السحيقة".
لقد آن الأوان لأن نؤنسن الإعلام العربي بحيث يصبح أكثر اهتماماً بالإنسان منه بالسياسات والقضايا العامة. لقد حان الوقت لأن نبدأ من القاعدة إلى القمة، وليس العكس وهو ما يفعله الإعلام العربي منذ انطلاقته. علينا أن نصحح مسار إعلامنا بقلبه رأساً على عقب. وصدقوني عندما نعالج همومنا ومشاكلنا الصغرى فإن "قضايانا الكبرى" ستـُحل بشكل أوتوماتيكي، فالإنسان المهمّش والمهمل لا يستطيع أن يتصدى للشؤون العظمى ما لم يكن قد تخلص من همومه الصغرى التي رسمها (مثلث ماسلو) الشهير.
متى يصبح إعلامنا في خدمة الإنسان؟