أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
تشويه بطولة غزّة وتبرئة بن أليعازر!!

بقلم : رشاد أبو شاور ... 01.07.2009

أحرص على متابعة حلقات (مع هيكل) التي تبث على فضائية 'الجزيرة' مساء كّل خميس، التي يسرد فيها الأستاذ هيكل بالوثائق (تجربة حياة)، هي حياته، وحياة مصر، وحياة العرب المعاصرين، بكل الأحداث التي عصفت بأمتنا.
انتظرت حلقة يوم الخميس 18 حزيران (يونيو) بفارغ الصبر، لأنني كواحد من أبناء جيل النكبتين، نكبة الـ48، ونكبة حزيران (يونيو) 67، أردت أن أعرف بالضبط ما حدث يوم 5 حزيران (يونيو)، وما هي أسرار ما وصفت بالنكسة، والتي ضاعت بسببها تتمّة فلسطين (الضفّة الغربيّة)، وسيناء، والجولان.
بدا الأستاذ هيكل مُثقل النفس، مُتعب القلب، من فرط ما يعرف من معلومات عمّا جرى، ولهول ما جرى.
في هذه الحلقة وهي ذروة من ذرى السّرد، عن هاوية سقطت فيها أحلام أمّة، وخاب فيها رجاؤها ممن عوّلت عليهم آمالها العراض. كشف الأستاذ هيكل عن سر قرار انسحاب الجيش من سيناء فورا، بعد أن اكتشف عبد الحكيم عامر قائد الجيش آنذاك حجم الضربة الجويّة، وهو ما أدّى إلى الانسحاب الفوضوي للجيش، وكشف وحداته وأسلحته، مما جعل 160 ألف مقاتل تحت رحمة طيران العدو، وما أدّى إلى تدمير أغلب آلياته، وألحق به خسائر فادحة في الأرواح.
لم يكن جيش مصر العظيم يستحق هذه الهزيمة، ولكنها القيادة غير الكفوءة، والأوامر المرتجلة التي أخرجت الجيش من تحصيناته ومواقعه، وجعلته مكشوفا، وقد كان بحسب الأستاذ هيكل قادرا على المواجهة ميدانيّا، رغم ما لحق بسلاح الجو المصري من كارثة.
لقد بلغت بطولة هذا الجيش يوم 5 حزيران (يونيو) أن أحد ألويته اقتحم خطوط العدو ودخل إلى فلسطين المحتلة عام 48، وعاد بكامل قوّاته سليما.
في نفس يوم هذه الحلقة التي أصابتني بحزن ثقيل، وكأنني أعيش هزيمة حزيران من جديد، عُدت للتساؤل: لماذا حدث ما حدث؟ لماذا ندفع ثمن فشل قيادات بائسة دون مستوى المعارك؟!
في نفس اليوم، نشرت 'الأهرام' كلاما كتبه شخص اسمه (أشرف أبو الهول)، ليس ريبورتاجا، ولا هو مقالة تحليليّة، ولكنه تبرئة لقتلة جنود الجيش المصري، وتشويه لبطولة قطاع غزّة المشهود له بالبطولة والعناد والمقاومة، وهو ما دفع رابين أن يُصرّح بأنه ينام ويحلم أن يقوم من نومه فيجد غزّة وقد ابتلعها البحر!
عنوان هذا الخلط مثير: أسرار احتلال (إسرائيل) لغزّة بلا قتال، وتحت العنوان، وفي الفقرة الأولى: سقطت غزّة من أقصاها إلى أدناها في حرب الأيّام الستة دون إطلاق رصاصة واحدة تقريبا، بل وأكثر من ذلك فإن السكان خرجوا لاستقبال الدبابات الإسرائيليّة بالزغاريد والشربات وهم في سعادة غامرة لأن أملهم تحقق أخيرا، ولم يكن السبب في ذلك الخيانة كما حدث عند سقوط بغداد، كما قد يتصوّر البعض، ولكنه للأسف الإعلام العربي، وبخاصة الإذاعة.
يدّعي الكاتب أنه قابل شيوخ العشائر في غزّة، وسمع منهم الحكاية التي تقول بأن أهالي قطاع غزّة استقبلوا جيش الاحتلال لأن الإذاعة المصريّة أوهمتهم بأن الجيوش العربيّة على وشك دخول تل أبيب، فاستغل (الإسرائيليون) هذا الوضع، واقتحموا قطاع غزّة، وكانت بعض الوحدات ترفع علم الجيش العراقي، وعلى الدبابات جنود يتكلمون باللهجة العراقيّة...
الشاعر الكبير هارون هاشم رشيد روى في كتابه (إبحار بلا شاطئ) الصادر عن دار مجدلاوي في عمّان عام 2004، سّر الخدعة (الإسرائيليّة) والتي كانت تستحق التحقيق، والكشف عن كيفيّة تمريرها على قيادة القطاع المصريّة.
هنا لا بدّ من التذكير بأن القطاع كان يُدار مصريا بحاكم إداري، وما يُشبه الحكومة، رُغم بروز منظمة التحرير الفلسطينيّة، وكان أمنيّا جزءا من أمن مصر، ويدخل في صلب خططها العسكريّة.
جيش التحرير الوليد حديثا كان تحت قيادة الجيش المصري، ولم يكن قد سُلح سوى بأسلحة فرديّة، وأسلحة دفاعيّة متواضعة.
يروي الأستاذ هارون في كتابه (ص 457) أن العميد خفاجي قائد المقاومة الشعبيّة دعاه سريعا إلى مكتبه، وخاطبه آمرا: تذهب من توّك إلى محلاّت الغزالي للحلويّات، وتملأ سيّارة الإذاعة بعلب الحلوى، لتكون غدا صباحا في رفح، تستقبل طلائع الجيش العراقي...
يسأل الأستاذ هارون: الجيش العراقي!
فيكون الرّد من العميد: نفّذ الأوامر دون سؤال...
في الليل يتّم الاتصال به ليطلب منه أن يرسل غيره مع الحلوى، ويحضر في الساعة 11 صباحا ليشارك في اجتماع لقيادة المقاومة الشعبيّة، كونه المسؤول الإعلامي.
صباح ذلك اليوم 5 حزيران (يونيو)، يصف الأستاذ هارون ما يجري، مشهد طائرة (إسرائيليّة) تحترق، وهدير مدافع..أمّا سيّارة الحلوى فقد احترقت وهي تقترب من رفح لأن الجيش الزاحف لم يكن الجيش العراقي!..وتلك هي الحكاية التي طويت مع أسرار كثيرة من كارثة حزيران (يونيو)!
يتساءل الأستاذ هارون: من الذي أبلغ خفاجي بأن الجيش العراقي سيصل إلى رفح؟! هل تمّ اختراق خطوط الهاتف، أم سُرقت شيفرة المخاطبة؟ لقد ظلّ ذلك غامضا ومجهولاً.
وقعت مذبحة حيث تقدّم جيش العدو، واشتعلت المقاومة في مدن وقرى القطاع، واستبسل أبطال جيش التحرير الفلسطيني، والمقاومة الشعبيّة، ومنذ ذلك الصباح اشتعلت مقاومة قطاع غزّة، وصار الليل للمقاومة والنهار لقوّات الاحتلال، وفي أحيان كثيرة نفّذ المقاومون عملياتهم في وضح النهار في شارع عُمر المختار، وغيره من شوارع غزّة.
يدّعي أشرف ابو الهول أن غزّة لو قاومت لتغيّر وجه المعركة، وفي هذا استخفاف بعقول قرّاء 'الأهرام'، فالهزيمة وقعت حين صدر الأمر لجيش يتكون من فرق، وألوية، ووحدات مدرعة وصواريخ، ومدفعيّة، وقوّات صاعقة، ومنذ ساعة تدمير الطائرات وهي جاثمة في المطارات.
غزّة المقاومة، والعمل الفدائي الذي نهض رافضا الهزيمة، أعطيا مصر وجيشها العظيم، والقائد جمال عبد الناصر، الفرصة لإعادة بناء القوّات المسلحة، وخوض حرب الاستنزاف بعد التقاط الأنفاس، ولكن أشرف أبو الهول الذي يرمي لتشويه دور غزّة المُقاومة وأهلها، يكشف عن انحيازه لرواية العدو حين يبرئ المجرم بنيامين بن اليعازر (بطل) مذبحة الجيش المصري في سيناء، والذي كشفته حتى الوثائق (الإسرائيلية) عن حرب حزيران (يونيو) 67.
يصف أشرف هذا كيف سعى للقاء بن اليعازر، والذي روى له أنه لم يُعدم الجنود المصريين، ولكن الضحايا ليسوا سوى فدائيين (مُخربين) فلسطينيين كانوا ينطلقون من قطاع غزّة ويسببون قلقا (لإسرائيل)!
العظام التي اكتشفت في سيناء في قبر جماعي، والتي نشرت 'الأهرام' نفسها قبل سنوات صورتها وقد أخرجها من رمال سيناء خبراء مصريون، ليست لجنود مصريين، و..لكنها لفدائيين فلسطينيين غزّاويين..فافرحوا يا أهل مصر، واستقبلوا بن اليعازر غير مُلطّخ اليدين بدم جنود مصر!
غزّة يُغمز من بطولتها، وتتهم بأنها لم تقاوم، لأنها لو قاومت فور وقوع الهزيمة لتغيّر وجه المعركة..كيف؟!
هل تحتاج غزّة لشهادة من أشرف وغيره بمقاومتها المستمرّة حتى يومنا هذا، ورغم الحصار المضروب عليها، والحرب الفسفوريّة التي أحرقت أطفالها، فثبتت في الميدان كالعهد بها، بينما مصر الرسميّة تتفرّج، وتشدد الحصار لإهلاكها مؤازرةً للصهاينة!
يا خسارة على 'الأهرام' التي أسسها عرب لبنانيون آمنوا بدور مصر، وأعلى بنيانها صحافيون كبار يتقدمهم الأستاذ هيكل الذي جعل منها مؤسسة عملاقة.