بقلم : د.خالد الحروب ... 12.08.2009
ليس ثمة قصد برسم تقابلية صارمة لها انعكاسات جغرافية وتتركب على الوضع السياسي الانقسامي الحالي في فلسطين. بمعنى أكثر وضوحاً لا يقصد العنوان القول بأن الاستخدام الترميزي للمسجد يُقصد به قطاع غزة تحت سيطرة حماس، وأن الاستخدام الترميزي للأمن يُقصد به الضفة الغربية تحت سيطرة فتح. ذلك أنه لواعتمدنا هذا التقسيم الابتساري لتورطنا في تبسيطية مضللة، فمدلولات كل من الرمزين تتواجد جنباً إلى جنب في كل من الجغرافيتين. وما يُقصد برمزي "المسجد" و"المخفر" غلبة مفاهيم الأمن والدين في التحكم في خيارات النخب المسيطرة، وأثرها على توجهات واعتبارات الشرائح الشعبية الأوسع، بصيغ ودرجات مختلفة. وهذه الغلبة لتلك المفاهيم تتجاوز المكان حيث إن وطأة وإكراهات الأمن والدين وضغوطهما على الفضاء العام موجودة في الضفة الغربية وفي قطاع غزة على حد سواء (كما هي الحالة في كل الفضاء العربي الراهن المؤسف).
إضافة إلى ذلك، وما يميز الحالة الفلسطينية عن شقيقاتها العربيات، هوالسيطرة الاحتلالية الإسرائيلية وتحكمها بعموميات وجزئيات الفضاء والحياة الفلسطينية. أياً ما كانت سيطرة المسجد أوسيطرة المخفر الفلسطينيين على الفلسطينيين، فإن كلاهما خاضع لسيطرة فوقية عليا من قبل الاحتلال الإسرائيلي. تتحرك آليات الفرض الديني وتتوسع باتجاه الفضاء المجتمعي في ذات الوقت الذي تتواصل فيه آليات فرض الاحتلال وسيطرته. وتتحرك آليات الفرض الأمني وتتغول باتجاه الفضاء المجتمعي، في ذات الوقت الذي تتواصل فيه آليات فرض الاحتلال وسيطرته. على ذلك فإن المقاربة لفهم تأثير وآليات السيطرات الثلاث هذه يبتعد من الدقة والواقع إن لم يتم الإبقاء على منظور كلاني لها، يراها كمصفوفات سيطرة تنتظمها تراتبية واضحة. وبالتالي يكون العنوان الحقيقي والضمني لهذه المقاربة: فلسطين تحت الاحتلال بين المخفر والمسجد.
أخذا ما ذكر أعلاه من سياقات بالاعتبار، وهي سياقات تنطبق على الحالات العربية وعلى الحالة الفلسطينية أيضاً، فإن هناك خصوصيات تمتاز بها الحالة الفلسطينية تُضاف إلى ما سبق وأشير إليه. وهي خصوصيات تعقّد من مفهوم الأمن وتفترض وجود عقيدة أمن فلسطينية مبتكرة تواجه في تقديري ثلاثة تحديات/تناقضات أساسية. التحدي الأول متعلق بصعوبة، حتى لا نقول استحالة، صوغ عقيدة أمن وطني غايتها حفظ أمن المواطن والوطن الفلسطيني في ظل سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على مفاصل الحياة الفلسطينية. وكما هوالوضع في الحالات العربية حيث يتداخل مفهوم الأمن الوطني ومصالح الدفاع عن النخب الحاكمة، أوالحزب الحاكم، فإن هذا ينطبق في الحالة الفلسطينية سواء في الضفة الغربية أوقطاع غزة حيث إن مفهوم الأمن الوطني يتداخل بعضوية مدمرة مع الدفاع عن مصالح حركة فتح هنا وحركة حماس هناك. وإضافة إلى التذويب المدمر لمفهوم الأمني الوطني في الحالتين، فإن كلتاهما تفشل في مواجهة التحدي الأمني الرئيسي والمتعلق باستمرار الاحتلال الإسرائيلي وتهديده المتواصل واللحظي والمزاجي لأمن الوطن والمواطن الفلسطيني.
التحدي الثاني الذي يواجه الحالة الفلسطينية متعلق، في الوضع الراهن، بصوغ عقيدة أمن فلسطيني تضمن وتحافظ على حق المقاومة بكل وسائله. وهذا يرتكز على الوضعية القانونية للأراضي الفلسطينية التي ما تزال أراضي محتلة من قبل قوة احتلالية أجنبية، ومن حق الشعب الواقع تحت الاحتلال ممارسة المقاومة بأشكالها المختلفة. لكن هذا الفهم النظري يواجه الآن مصاعب كبيرة عند محاولة مصالحته مع الواقع على الأرض، سواء في الضفة الغربية أوقطاع غزة. ففي كلتا الحالتين يرتكز مفهوم الأمن، أياً كان تعريفه، على حصرية امتلاك وسائل العنف وحصرية استخدامها. بمعنى أنه لا يجوز لأي جهة أوتنظيم امتلاك أواستخدام السلاح حتى لممارسة المقاومة، لأن الاستخدام حق حصري للسلطة القائمة.
التحدي الثالث متعلق بوقف تغول الأجهزة الأمنية في الجغرافيتين على حريات الناس، وعدم تطور نموذج فلسطيني للدولة البوليسية الذي رأيناه بأسى وقلق عميق في كثير من الحالات العربية. هناك مؤشرات خطيرة إن لم نقل مرعبة تدلل على أن التجربة الفلسطينية، ورغم أنها لا تصل لمستوى الدولة، وتفتقد إلى السيادة، قد تفشل في تقديم نموذج جديد مبتكر لا يستنسخ التجارب العربية والعالمثالثية. وكثير من المقولات الأمنية المؤسسة للتجربة الفلسطينية تقول بأننا كفلسطينيين لسنا استثناءً، ولم نأت من السويد ولا يجب محاسبتنا بمعايير قاسية في تقييم التجربة الأمنية لا تطبق على سوانا من "الأشقاء العرب". وفضلا عن الترهل الاستشراقي في مثل هذه الادعاءات، فإنها في الحالة الفلسطينية تمثل هروبا من تقديم نموذج يبني على ما كان يُقال دوما عن تقدم الفلسطينيين وتعلمهم وتثقفهم المميز وعمق تجربتهم. لكن على العموم يبقى من المهم الإقرار بأن إيجاد التوازن بين تحقيق الأمن واحترام الحريات العامة وعدم انتهاك حقوق الإنسان هوالاختبار الدقيق الذي تفشل فيه معظم الدول الاستبدادية. ففي معظمها ينحاز النظام الحاكم وأجهزته الأمنية إلى تحقيق الأمن وفرضه، وإيلاء أهمية أقل لضحاياه من أبرياء وأفراد انتهكت حقوقهم. حتى هذه اللحظة لا نستطيع القول بأن هناك انفلاتاً من مسار التجارب العربية في هذا الموضوع. الضحية الأهم هنا هي الغالبية الصامتة، أوالشعب. عندما تشتد القبضة الأمنية ويزداد بطشها يتم تحييد الشعب وتحويله إلى قطعان مسالمة وخائفة. وفي حالة كون ذلك الشعب واقع تحت الاحتلال فإن منعكسات ذلك خطيرة وتتضاعف، إذ أن مفاعيل المقاومة حتى بأشكالها السلمية يتم تنفسيها والقضاء عليها بشكل مقصود أوغير مقصود — وهذا موجود عملياً في الضفة الغربية وقطاع غزة على حد سواء وإن من خلال مقاربات مختلفة في المنطلق، متفقة في النتيجة. وإذا تمعنا في قراءة خطاب الجنرال كيث دايتون في شهر أيار الماضي في معهد واشنطن وتأكيده على ضرورة بروز الفلسطيني الجديد، يمكن أن نلحظ أن السمة الأساسية لهذا الفلسطيني الذي يريد دايتون إنتاجه أمنياً هي الفاعلية المهنية والاقتصادية، لكن المضبوطة بمناخ الخوف الأمني والسلبية المقاومية.
التحديات الثلاثة الكبيرة التي تواجه أي منظور فلسطيني للأمن الوطني تفاقم من الضغوط على الفرد الفلسطيني الذي يُصاب بالدوران نتيجة الحيرة وفقدان البوصلة عندما تحاصره تلك التحديات ويشعر بوطأتها مباشرة. لكن إضافة إليها جميعاً يأتي تحدٍ رابع يزيد من حدة الدوران والحيرة، وهذه المرة يأتي من منظور تحقيق "الأمن الاجتماعي" أو"حماية الفضيلة" — أوتحديات الأسلمة وخاصة التي نراها الآن في قطاع غزة. ولئن كانت تحديات "الأسلمة" في قطاع غزة قد تمت تغطيتها بتركيز من قبل الإعلام وكتاب كثيرين بمن فيهم كاتب هذه السطور (في مقالة الأسبوع الفائت بعنوان "حماس بين طالبان وأردوغان")، فإن ذلك لا يعني أن الضفة الغربية تفلت تماماً من مثل تلك التحديات وضغوطاتها. يقع الفرد الفلسطيني كما هوالفرد العربي في كل البلدان العربية بين سندان الأمن ومطرقة المسجد، بمعناهما الترميزي، ويؤدي ذلك إلى الهروب من السياسة والحياة العامة واللجوء إلى اللامبالاة امتثالاً للخوف والخشية، أوالهروب كلية من البلد إن كان ذلك قيد الاستطاعة.