بقلم : نقولا ناصر* ... 30.08.2009
لقد انقشع الآن غبار الزوبعة التي افتعل البعض إثارتها حول "فرض الحجاب" في قطاع غزة، لكن بغض النظر عن الجدل الدائر حول الالتزام أو عدم الالتزام بزي إسلامي وتوقف أو عدم توقف هذا الجدل، فإنه لا يمكن المرور مرور الكرام على ظاهرة أثارها هذا الجدل كانت نموذجا لأقلام من المفترض فيها أنها قائدة للرأي العام فإذا بها تتحول إلى أبواق للتضليل، تخط قبل أن تتيقن، وتكتب نتائج مبنية على معلومات غير دقيقة لم تكلف نفسها عناء التحري عنها، وتخلص إلى استنتاجات مبنية على مقدمات افتراضية أملتها الأفكار المسبقة لا حقائق الواقع، ليتحول نتاج هكذا أقلام "علمانية" إلى حجاب علماني يحجب الحقيقة، أو يتحول إلى نموذج للإشاعة الناجحة في الحرب النفسية التي تبني على جزيء من الحقيقة لتعميم أكاذيب ملفقة تجافي الحقائق على الأرض.
كان افتعال "معركة الحجاب" في قطاع غزة نموذجا لتغليب الفرع على الأصل، وتقديم الثانوي على الرئيسي، والجزئي على الكلي، والمظهر على الجوهر، وتصيدا لسلبيات خاصة لصرف الأنظار عن إيجابيات عامة، وتحريضا على الانقسام الاجتماعي باسم الاحتجاج على ما ادعي بأنه إجراء يثير الانقسام الاجتماعي، ونفخا في اختلاف مجتمعي لتسعير خلاف سياسي، وتسييسا غير بريء لقضية كانت دائما مثار جدل بين المؤمنين.
فالأصل في القطاع الفلسطيني المحاصر هو الحصار المزمن الذي يزيد عمره أضعافا على عمر وجود حركة حماس في قيادته، والرئيسي في القطاع هو الاحتلال الذي يحاصره منذ عام 1967، والكلي في القطاع هو الفقر المدقع والبطالة العامة والموت الجماعي البطيء الذي أجبر أهل القطاع على البحث عن الحياة في الأنفاق تحت الأرض بعد أن استحال توفير أسباب الحياة فوقها، والجوهر في القطاع هو المقاومة لكل هذا الظلم التاريخي والدولي الذي يهون أمام ظلم ذوي القربى العرب وفي مقدمتهم أشقاء فلسطينيون، وكل ما عدا ذلك ينبغي أن يكون فرعيا وثانويا وجزئيا ومظهرا يجب ألا يمس الجوهر، لكن قلة قليلة ذات صوت نشاز مرتفع ما زالت بوعي أو دون وعي تصر على أن تختزل الصراع من أجل الوجود الإنساني والوطني في القطاع وعذابات أهل غزة في قضية الحجاب المفتعلة.
والافتعال في قضية الحجاب المضخمة توضحه مجموعة حقائق أولها أن ولاية وزارة التربية والتعليم الفلسطينية تطال مدارسها فقط التي تضم حوالي ربع مليون طالب وطالبة بينما يتبع عدد يقل عن ذلك قليلا ولاية الأمم المتحدة في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" وولاية مدارس خاصة مسيحية وغير مسيحية، وثانيها أن الوزارة نفسها قد نفت أنها قررت فرض الزي الشرعي على طالبات الثانوية، أو أن تكون بصدد فرضه، وأكدت " تأكيدا رسميا أنه ليس هناك أي قرار بفرض الجلباب على طالبات الثانوية أو إلزامهن بأي زي على الإطلاق وأن زيهم هو المعتاد والمتعارف منذ سنوات" وأعلنت أنه بإمكان أية طالبة أو ولي أمر مراجعة الوزارة إن كان هناك أي تهديد من أي إدارة مدرسية بالحرمان من التعليم في حال عدم الالتزام بالزي الشرعي (وكيل وزارة التربية والتعليم بغزة د. يوسف إبراهيم). أما ثالث هذه الحقائق فيؤكد بان حركة حماس انسجاما مع نفسها "تنصح وتدعو" إلى الالتزام بالزي الشرعي طوعا لكنها لم "تأمر" به، ورابع الحقائق أن قيادة حركة المقاومة الإسلامية تكرر تأكيدها بأنها في هذه المرحلة من النضال الوطني الفلسطيني تعمل كحركة تحرر وطني وأن برنامجها الاجتماعي مؤجل إلى ما بعد التحرير والتحرر من الاحتلال.
لكن الحقيقة الخامسة تؤكد بأن ملصقا من إدارات المدارس قد علق على مداخل بعض ثانويات الإناث في غرب غزة، وهذا قطاع تعليمي محدود من مدينة غزة ناهيك عن القطاع بكامله، حدد شروط الزي المدرسي للعام الدراسي الجديد ب"جلباب كحلي فقط"(وليس أسود)، وغطاء رأس أبيض وحذاء ابيض أو أسود، ووجد المتصيدون في المياه الفلسطينية العكرة في هذا الملصق والإجراء المترتب عليه فرصه سانحة لشن حملة مضخمة في محاولة لتعميم حالة خاصة معزولة لم تعمر طويلا على كل حال بعد أن سارعت حماس إلى احتواء مضاعفاتها السلبية. لكن الحملة مستمرة في تعميم مشبوه لما كان حالة محدودة وفي تسييس مغرض لقضية دينية واجتماعية سوف يستمر الجدل حولها كما استمر منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة ليس في قطاع غزة فقط بل في كل العالم حيث يوجد مؤمنون وعلمانيون.
وقد بولغ في لي عنق الحقيقة في هذه الحملة مبالغة وصلت حد الشطط، تضع علامة سؤال كبيرة حول الأهداف الحقيقية لها، إذ اشتط بعض الكتاب ليعنون أحدهم مقالا له ب"قمع المرأة" بعد "إصدار قرارات ملزمة للآخرين دون استشارتهم" أو استشارة "القوى الأخرى في غزة" ليخلص من مقدمته المبنية على معلومات مغلوطة إلى الاستنتاج بأن "المقاومة قد تحولت لتقاوم حريات الناس"، وليكتب آخر بأن حماس "فرضت حصارا داخليا" ويضيف مستهجنا"كأن الحصار الخارجي لا يكفي" ليستنتج بأن "القرارات الحمساوية تعلن في شكل لا لبس فيه عن مشروع إنشاء إمارة إسلامية في غزة" وبأن "حماس قررت استبدال هدف تحرير فلسطين من الاحتلال، بهدف بناء مجتمع إسلامي" ليخلص بدوره إلى "أن تحجيب غزة، سوف يمنعها من رؤية ما يجري في بقية الأراضي الفلسطينية"، ليقرر ثالث بأن حركة حماس بدأت "مؤخراً بفرض مظاهر السَعوَدَة في داخل قطاع غزة" ليستنتج هو الآخر أن حماس تقوم "بفرض ثقافة دخيلة عليه قسراً" (كذا!)، ويشتط رابع ليقول إنها "ممارسات طالبان العرب" التي تطلق "العنان لدولة الاستبداد الديني المطلق الذي يعتبر الاحتلال، ومن وجهة نظر واقعية، أكثر حداثوية وانفتاحاً مجتمعياً" مما جعل الناس في غزة "يترحمون على أيام الاحتلال"، إلخ.
إن هؤلاء وغيرهم يتجاهلون حقيقة أن الزي الإسلامي أصبح علامة مميزة منتشرة على نطاق واسع فلسطينيا وعربيا وعالميا "طوعا" ودون إصدار أية أوامر أو صدور ما وصفوه ب"الفرمانات الطالبانية" في عواصم وشوارع وجامعات ومدارس البلدان المنخرطة، قيادة أو تبعية، في الحرب العالمية الأميركية - الإسرائيلية "على الإرهاب"، وفي مقدمتها دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبالضد من "الفرمانات العلمانية" التي تحاول احتواء هذه الظاهرة في هذه البلدان وهي الفرمانات التي ما زالت الأقلام المتباكية على الحريات العامة في قطاع غزة تستنكف حتى عن توجيه أي نقد لعدوانها السافر على تلك الحريات، ويتجاهلون أن هذه الظاهرة اجتاحت أيضا الوطن الفلسطيني قبل وقت طويل من وجود حماس في قيادة القطاع وبأن انتشارها في الضفة الفلسطينية لنهر الأردن حيث تسيطر "علمانية" الاحتلال أو سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية لا يقل عن انتشاره في غزة.
واللافت للنظر أن شطط هذه الأقلام قد حول قضية "فرض الحجاب" التي افتعلوها إلى حجاب بينهم وبين الحقيقة، عندما التقطوا انتقائيا جزئيتها المعزولة فعمموها "لغرض في نفس يعقوب" بينما تجاهلوا عمدا "تعميم" الحكومة بغزة في اليوم السابق تماما بعدم التقيد بالزي المدرسي مراعاة "للوضع الاقتصادي" الناجم عن الحصار الذي جعل العثور عل هذا الزي مثله مثل القرطاسية والدفاتر المدرسية أمرا مستحيلا، وتعميم الأونروا لندائها العاجل لتوفير (181) مليون دولار لإغاثة أهل القطاع في شهر رمضان، وتعميم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوشا" عن "الكارثة الإنسانية العميقة" التي أسفر الحصار عنها، وتجاهلوا حقيقة أن حماس خاضت في رفح قبل أيام مواجهة دموية فرضت عليها مع تلك القوى التي تسعى حقا إلى فرض رؤيتها تعسفا بالقوة الغاشمة حتى دون "فرمانات"، إلخ.، لكنهم تجاهلوا قبل كل ذلك حقيقة أن العامل الاقتصادي له قوة الإيمان الديني في اختيار الزي الإسلامي وأن قوة هذا العامل في القطاع مضاعفة بسبب الحصار المتواصل وان بذور "الدعوة" إليه تقع في أرض خصبة مهيأة للاستجابة أكثر مما هي مهيأة للرفض.
غير أن الحكومة في غزة لا تستطيع إعفاء نفسها من مسؤولية الزوبعة التي أثيرت بتحميلها للوزارة المختصة، ولا تستطيع الوزارة التنصل من المسؤولية بتحميلها لما قالت إنه كان "اجتهادات" شخصية أو "مبادرات" خاصة من بعض مديرات المدارس، لأنه "لا مكان للاجتهادات الشخصية" -- كما قال مصطفى الصواف رئيس تحرير صحيفة "فلسطين" التي توزع في غزة فقط حاليا بعد أن منعت سلطة الحكم الذاتي في رام الله إصدارها في نابلس وتوزيعها في الضفة الغربية المحتلة لنهر الأردن -- عندما تكون هناك حكومة وقانون ونظام عام، وإلا كان الأمر سابقة في مجال التعليم ستفتح أبواب الفوضى في قطاعات المجتمع الأخرى.
كما لا يسع حركة حماس التي تدير الأمور في القطاع المحاصر التنصل من مسؤولية تقصيرها في توضيح أن برنامجها السياسي هو في المرحلة الراهنة برنامج للتحرر الوطني الفلسطيني والمقاومة وأن برنامجها الاجتماعي سابق لأوانه قبل التحرير لأنه يفجر صراعات اجتماعية تصرف الأنظار بعيدا عن مقاومة الاحتلال.
أما بعد رحيل الاحتلال فليتجادل المتدينون والعلمانيون كما يشاءون حول ما إذا كان هناك، أم لم يكن، سند ديني أو تاريخي لغطاء الرأس وللثوب الفلسطيني الجميل المقصب والمطرز بألوان متعددة زاهية تحبب الإنسان في الحياة وهو الزي الذي ارتضاه عرب فلسطين جميعهم، مسلمون ومسيحيون، زيا وطنيا لنسائهم في ظل الحكم الإسلامي، العربي وغير العربي، طوال قرون من الزمن، قبل أن يفتحوا معركة أموية – عباسية في القرن الحادي والعشرين حول ما إذا كانت ثياب الحداد بيضاء كما كانت في عهد الخلافة الأموية أم سوداء كما تغيرت في عهد الخلافة العباسية التي أعقبتها.