أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
معنى التقدم وخرافة الرفض!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 02.09.2009

في الجدل الحديث والمضطرب حول "لماذا لم يتقدم العرب والمسلمون" تسللت مفاهيم ما بعد حداثية لتعيق الفهم وتقطع الطريق على انفتاح السجال على مصاريعه المختلفة. أهم هذه المفاهيم القول بأن فكرة "التقدم" (أوprogress) هي فكرة قسرية وإكراهية، إن لم تكن شبه نازية، تستبطن فرضية أساسية مفادها أن كل المجتمعات والحضارات تسير وفق مسار "التقدم" الذي سار عليه الغرب. وهذا "التقدم" المفترض يتجه في طريق خطي صارم ينقل البشر من حالاتها التقليدية ما قبل الحديثة إلى الحديثة بكل ما يستلزمه ذلك ويجلبه من شروط وتغييرات في المجالات المختلفة: ثقافيها، واجتماعيها، وسياسيها، واقتصاديها. "التقدم" هوبهذا المعنى جوهر الشكل الحديث للعالم واجتماعه السياسي، وهوقلب عملية الحداثة الذي يظل ينبض علماً وابتكارات ومفاهيم وتصورات. لـ "التقدم" الخطي أشكال مختلفة: قاسية ولينة، القاسية منها هي تلك التي تسيطر المادية على كل الفضاء الفردي والاجتماعي وترفض الإقرار بما هوغير مادي، وخاصة الأشواق الروحية للأفراد والجماعات. أما اللينة منها فهي الأشكال التي تأخذ بالاعتبار تلك الأشواق وتحملها معها وتراعيها، لكن تظل تخضعها للمسار العقلاني العام ولا تسمح لها بإزاحة العقلانية واحتلال موقع القيادة في توجيه المجتمعات.
سياسياً يعني التقدم تقديم فكرة الدولة وإعلاءها في الاجتماع السياسي والدولي واعتبارها الوحدة الأساسية في تنظيم علاقات البشر ببعضهم البعض. قبل الدولة كانت الوحدات المتنافسة إما القبائل أوالطوائف أوالأديان أوالامبراطوريات، وكلها لها تواريخ دموية. الدولة الحديثة تاريخها ليس أقل دموية لكنه أكثر تنظيما وينطوي مستقبلها على احتمالات أكثر للتوصل إلى سلام عالمي، وهوما لا تحمله أوتعد به الأشكال الأخرى من الاجتماعات البشرية. علاقة الأفراد بالدول تنتظمها فكرة "المواطنة" والتي تقوم على أساس تعاقدية قانونية آليتها الأساسية تكمن في الحقوق والواجبات. والانتماء للدولة يتقدم على الانتماء للقبيلة والطائفة والدين، لأن الدولة هي التي توفر قائمة الحقوق والحماية والرعاية.
ثقافياً واجتماعياً يعني "التقدم" تقديم مفاهيم الحرية الفردية والإبداع المستقبلي وسياسات الخدمات والمصالح المتبادلة على مفاهيم الهوية والماضوية والتكلس وراء وحول القيم والمفاهيم التقليدية والبالية. ليس هناك قداسة لمبادىء وقيم تتحول إلى عبء فردي واجتماعي وتعيق حركة الأفراد والجماعات باتجاه إبداع أشكال وصيغ تحسن من شروط الحياة البشرية، وتوفر بيئات ونظم أكثر رفاهية ورأفة بالإنسان. يفترض "التقدم" بمعناه الحداثي إعمال النقد بإطلاقيته بالموروث الجماعي التقليدي والديني والنظر إليه بانتقائية مقصودة تأخذ منه ما يناسب العصر والحداثة، وتلفظ ما لا يناسبهما. وهذه الآلية هي على العكس تماماً مما تطرحه الآن كثير من الدعوات التقليدية والدينية التي تثقلها التواريخ والماضويات والانشدادات المعيقة للتراث. فما نراه فيها هوانتقائية تريد أن تأخذ من العالم الحديث ما يناسب صيغ وآليات ما قبل الاجتماع الحديث، وتركب مجتمعات نصف تقليدية ونصف حداثية، تقبل التقدم هنا وترفضه هناك. بمعنى آخر: عوض أن يخضع الماضي لعملية نقدية وانتقائية يخضع المستقبل (التقدم) لتلك العملية التي عملت وما زالت تعمل على إعاقة لحاق مجتمعات تقليدية عديدة بمسار التقدم الذي حققه الغرب، بما في ذلك المجتمعات العربية والإسلامية.
اقتصادياً يعني "التقدم" إطلاق طاقات الأفراد والجماعات في اتجاه استثمار ممتلكاتهم وقدراتهم وتعظيم أرباحهم لأن ذلك سيقود إلى الاستغلال الأمثل للثروات والأموال وتحقيق رفاهيات أوسع، ويشجع على عدم "كنز الأموال". يُلخص هذا بحرية السوق والرأسمالية التي تشجع الملكية الفردية والإبداع والبحث الدائم عما هوجديد. كل المخترعات والاتجاهات الجديدة التي نراها حولنا سواء في مجالات الطب، والزراعة، والمواصلات، والتعليم هي نتاج الانطلاق دائم التجدد لرأس المال. وقد أتيحت للبشرية فرصة تاريخية لاختبار النظرية الأكثر تنافسية وهي نظرية مُلكية الدولة لوسائل الإنتاج كما طرحتها الماركسية وكما طبقها الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية. وكانت النتيجة هي وأد المبادرة الفردية والتكلس الجماعي وتعاظم استبداد الدولة.
لا يعني كل ما سبق أن "التقدم" بصوره ومجالاته المتنوعة: ثقافيا، واجتماعياً، وسياساً، واقتصادياً قدم الترياق التام لمشكلات البشر وأزمات البشرية، وأنه كان خلواً من النواقص والكوارث. كانت المعضلات التي رافقت "التقدم" عديدة وكبيرة، لكن زاوية النظر هنا نسبية ومقارنية وليست إطلاقية ولا مؤدلجة. تتحمل الصيغ "القاسية" والنازية من التقدم وزر الحروب العالمية والإبادات الإنسانية والاستعمار، كما تتحمل الصيغ البشعة من الرأسمالية وزر استغلال الشعوب الأخرى وثرواتها. وهي كلها أوزار تقر بها وتنتقدها صيغ التقدم اللين قبل أن ينتقدها الآخرون، ونقدتها الحداثة وتنقدها وتتهمها قبل أن تنقدها ما بعد الحداثة. لكن المُهم هنا هوعدم التخلص من المولود مع ماء الولادة، والتفريق بين العناصر المختلفة. وهذا ما قامت به نظريات "نقد الحداثة" التي رافقت المشروع الحداثوي ولم تهادن في نقده وتفكيك استطالاته غير الإنسانية وتوحش بعض جوانبه. لكنها في الوقت ذاته لم تقبل النكوص عليه والتخلي عنه كلياً. ظل التقدم أحد أهم المكونات الجوهرية للمشروع الحداثي لكن تمت أنسنته، وتم أقلمة "العلموية" الباطشة التي خلقت إيديولوجيا جديدة تدور حول العلم وتقدسه بدل أن تضعه في خدمة الإنسان.. واستطاع "نقد الحداثة" أن يتواءم "الحداثة" نفسها ويصبح الرقيب الدائم عليها والناقد لكل انحرافاتها. والتمظهرات الأهم سياسيا وثقافيا فضلا عن الفكر والكتابة تتمثل في التيار العريض لمنظمات وهيئات المجتمع المدني المعولم التي تنتقد الانحرافات السياسية والاقتصادية على الدوام، وتنتصر لحقوق الإنسان وتعدل الكثير من القوانين، وتخلق شبكة عالمية من التضامن.
بخلاف ذلك ما طرحته أفكار ونقود "ما بعد الحداثة" كان أقرب إلى التخلص من الولد مع ماء الولادة، والذي أنتج في كثير من الأحيان فكرا عدمياً لا يقدم بدائل. وفي مسألة التقدم كان النقد الشرس الذي قدمته مدرسة ما بعد الحداثة قد أورث نوعا من العجز والشلل الفكري. فأمام إغراء وإغواء النقد الذي وجه إلى الحداثة (والغرب) لم يكن أمام الكثيرين من الذين لحقت بهم ويلات الغرب والحداثة إلا أن يتبعوا ذلك النقد. لكن النهاية كانت عدم تقديم البديل وتقديس التخلف بكونه خصوصيات ثقافية يجب المحافظة عليها.