بقلم : د.خالد الحروب ... 22.07.2009
"ضارب المندل" في مخيم البقعة للاجئين الفلسطينيين في الأردن يلهب القلق في قلب أم فتحي. يقول لها إنه يرى فتحي يحمل رشاشا في مكان مجهول، فيُغمى على الأم التي ظنت أن ابنها قد استشهد. إثر ذلك صار على زوجها شبه المعدم أبو فتحي أن يسافر عبر البر من مخيم البقعة إلى بيروت حيث الجامعة الأمريكية كي يطمئن على سلامة "الولد"، ثم يعود ليطمئن أم فتحي. كان ذلك عندما كانت بيروت تغلي استعدادا لحرب أهلية طاحنة سوف تسيل فيها دماء كثيرة. كان "الولد" قد جاء إلى الإنترناشيونال كوليج في بيروت بمنحة دراسية لإكمال الشهادة الثانوية بعد تفوقه في امتحان أجرته وكالة الغوث للطلبة اللاجئين المتفوقين في الأردن في أواخر الستينيات. من طين المخيم وبؤسه وانغلاقه ومحافظته إلى صخب بيروت وسعادتها وانفتاحها الذي صدم المراهق الصغير آنذاك. لكن قبل كل شيء وفوقه كانت بيروت تموج بالعمل الفلسطيني، ويفيض حماس المتحمسين للأحزاب والتنظيمات في ثانوياتها وجامعاتها. في تلك البيئة، وكما غيره من آلاف الشباب الفلسطيني المندفع نحو تحرير فلسطين عبر كل العواصم، وجد فتحي البس ما كان يبحث عنه: بيروت كانت ماء الحياة لسمك فلسطيني كثير خنقته مرارات هزيمتين مُرتين فادحتين.
عندما ترك حبيبته الأولى إبتسام في مخيم البقعة كان قد أمطرها بوعود البقاء على عهد الحب الصغير، والعودة إليها والزواج منها. واصل إرسال رسائله الطافحة بالهيام من بيروت إلى عنوان مدرستها في البقعة. وقعت الرسائل في أيدي أهلها فزوجوها مبكرا، فانصبت مرارة قاسية في قلب المغترب الصغير. لم تكن هذه بداية المرارات أو الهزائم، كانت حلقة منها وحسب. تُنافس تلك المرارات بعضها بعضا، وتنسخ عن قصص مئات الألوف من الفلسطينيين الذين كانوا يرتخون على صدر البساطة والسذاجة في بلد كان قد وضع قيد السرقة منذ فترة طويلة. لما بُدئ بتنفيذ السرقة عام 1948 هرعت عائلة فتحي البس مع أهل قرية الفالوجة يلملمون ما سوف يسمهم بنعت "اللاجئين" لعقود طويلة قادمة، وانتهوا مبعثرين تستقبلهم بلاهة الحزن والصدمة في مخيم الفوار. من يومها صارت المخيمات عنوان العائلة التي انتقلت إلى مخيم العروب، ثم مخيم عقبة جبر بعد حرب 1967 قرب أريحا، ثم إلى غور نمرين، ومخيم الكرك، في الأردن، حيث رأى "الولد" أول ظهور الفدائيين. لكن كان الانتقال الأخير إلى مخيم البقعة حيث استقرت العائلة إلى التسعينيات.
بعد سنوات بيروت الحافلة يتخرج فتحي البس من الجامعة وتنشطر رغباته بين البقاء فيها أو العودة إلى الأردن حيث أمه وأبوه وبقية العائلة ينتظرون "الإنقاذ والانتشال" من الفقر على يد الخريج الجديد. يقرر العودة بتردد كبير. في مخيم البقعة تزغرد أم فتحي وتغني وترقص فرحة بعودة "الصيدلاني الكبير". تذبح الديوك والدجاج وتتباهى أمام جاراتها. أخته تطلق التصريحات السعيدة والتفاخرية وتقول لصديقتها فاطمة: "خلاص، راحت أيام الشقا، أجا الفرج، أجا فتحي اللي ما خلفت النسوان مثله". هناك يفتتح بالديون صيدلية، وتروح بيروت ونضالاتها إلى رفوف الذاكرة - تنتظر أكثر من ثلاثين سنة حتى تنثال.
لكن الذاكرة لا تقول لنا كل شيء. تقول لنا ما نريدها أن تقوله لنا. أو نقولها ما نريد أن تتذكر، ونرجوها أن تسكت عما لا نريد - ألا تفضحنا! وما نكتبه من ذكريات يكون جانبها الأكثر إثارة هو ذلك الذي لم نكتبه. نتردد في الاقتراب منه، أو ننساه كليا، لكن ما بين السطور يخوننا ويشير للآخرين ببعض ما لم تكتبه القصة. وما يُسجل لفتحي البس في "انثيال الذاكراة: هذا ما حصل، 2008، 351 صفحة" هو إقراره المبكر بأنه لم يكتب كل شيء، يقول: "عندما تنثال الذاكرة، تأخذ أشكالاً ثلاثة: صورا وأحداثا واضحة وجلية، وصورا وأحداثا ملتبسة تحتاج إلى تدقيق وفرز للاقتراب من الحقيقة، وصورا وأحداثا تستدعيها الذاكرة حسب ما تمنى الإنسان أن تكون، وليس كما كانت، وبالتالي تعكس أماني الإنسان وأحلامه وقت وقوع تلك الأحداث، ولا تخلو ذاكرتي المنثالة من كل هذه الأشكال". ذاكرة فتحي البس انتقائية كأي ذاكرة، تميل إلى رومانسية الثورة ورومانسية الناس، لذلك فهي مليئة بقصص جميلة ثورة وحباً. خانته ذاكرته عمدا وخانها إذ انحازت لرومانسية الأشياء، وتهرب من بشاعاتها العديدة. ذكر كثيرا من هذه الأخيرة، لكن خيطاً قويا ظل يشد السرديات إلى أفق متأوه يترحم على أيام ما عادت.
في بيروت الجامعة الأمريكية في أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي كانت الحركة الطلابية الفلسطينية واللبنانية فائقة التسيس والنضالية. كانت الجامعات معاقل العمل السياسي والصراعات، ودائمة الانتفاض. انثيالات فتحي البس عن تلك الفترة تثير الغيرة عند من فاته أن يعيشها. حياة الطلاب العفوية، الصاخبة، المصدومة بانفتاح بيروت، والمفتوحة على كل تيارات الثورات في العالم، وملاحقات الأمن، والصدامات مع إدارة الجامعة الأمريكية، وقصص الحب الملتهبة المتولدة في قلب التنظيمات والمظاهرات، ودورات التدريب العسكري، ثم وأهم من ذلك كله الإضاءات المهمة على تجربة الكتيبة الطلابية، أو كتيبة الجرمق التي مثلت كما يتوافق كثيرون التجربة العسكرية الأكثر ألقاً في الثورة الفلسطينية في لبنان، حيث الالتزام الثوري بالحفاظ على البوصلة متوجهة نحو فلسطين وعدم الانجرار نحو الصراعات الثانوية، والصراعات الطائفية. في صفحات انثيال الذاكرة نقابل سريعا بعضا من قادة تلك الكتيبة ومنظريها. ونقرأ قصصا وسرديات عن مناضلين وأسماء يفتقدهم كثيرون عندما يرون هطول السواد على حالنا اليوم.
ماذا حدث للثورة، للفدائيين، للعنفوان الذي كان يلامس صفحة السماء، للأفق الذي كان يغار منه العُقاب، للإخلاص والطهر الثوريين اللذين صقلا جيلاً وألوفاً على وعد الغد وعهد النصر. كيف أمكن لرومانسية جيل وضع عينه على تحرير الكرة الأرضية، وليس فلسطين فحسب، أن تتواءم مع بشاعات السياسة، وإكراهات واقعيتها؟ بعد عقود من اللجوء والمرارة والثورة والرفض والمرارات يدخل الولد الذي يقول عن معاركه مع الأيام "قهرتني الأيام لكنها لم تهزمني بعد" رام الله لأول مرة في 1996 ويكتب: "كنت أحاول قطع الشارع في منطقة دوار الساعة. أقبل علي شرطي سير وشدني من ربطة عنقي صارخاً، أنت فتحي البس، تلبس البدلة وتتبختر في شوارع رام الله، وأنا أنظم السير! طبعا لا بد أنك قائد في السلطة. تمالكت نفسي وأجبته أن هذا أول يوم لي في رام الله، ولست قائدا في السلطة، وليس لي علاقة وظيفية بها. وسألته من هو؟ أجاب بغضب إنه أحد ضحاياي، نظمته في بيروت في مطلع السبعينيات ليناضل من أجل تحرير فلسطين، فانتهى به المطاف ينظم السير وهو الذي كان صقرا يحلق في سماء الثورة. أدار لي ظهره ومضى. لم أعرفه".