بقلم : رشا حلوة ... 30.10.06
منذ فترة لم ألامس الصباح كما يستحق، كان لصباح اليوم رائحة مختلفة. رائحة ممتدة من عكا حتى حيفا، ومسؤوليتي أن ألملمها لأرتوي قليلاً، ولأضيف إلى رائحتي عبق الطبيعة والسماء. كان الصباح يشبه ملامح الغروب، رمادي الهيئة. فجأة أحاطني هواءٌ خفيفٌ، حرٌ، كأنه لا يحمل شيئًا بين نسمة وأخرى، ترافقه قطرات خفيفة هي أيضًا، تحذر من قدوم مزعج أو غير مزعج، وفقًا لاختلاف الحالات التي يُشكلها المطر عند الناس، وتشابهها بالأكثر، إذ أنه يُشكل عند أغلب الناس إنعاشاً لذكرى ما، ذكرى عشق على الأرجح..كما قال "زروبا" في أحدى رقصاته: "إنها للذيذة، وحزينة جدًا، تلك الساعات من المطر الناعم، تعيد إلى الذهن جميع الذكريات المُرة، المدفونة في القلب: فراق الأصدقاء، ابتسامات نساء قد طفأت، آمال قد فقدت أجنحتها كفراشات لم يبق منها إلا الدود..".
لم أكن جاهزة للمطر هذا اليوم، أنه هكذا، يأتي من دون أن يدعوه أحد، من دون أن يأتي موعده حتى.. يلملم نفسه، حقائبه، ويأتي.. يعلن لنا في الأرصاد الجوية أحيانًا، وأحيانًا لا تكتفي هي بأن تعلم بقدومه. لا ثياب دافئة جاهزة، ولا حذاء مضاد للمياه، حتى المظلات هنا لا تتحمله، تذهب معه ومع الرياح..
ازداد المطر، بردت قليلاً، ها هو يعود مرة أخرى بنفس الشكل، والشعور، والفوضى..
يجعلني أختبئ منه، تحت سقف لا يسمح له بالعبور، كل ما حولي امتلأ بالمياه، حاول أن يلمس خصلات شعري، أخبئها بيدي، تصل قطراته إلى يدي، يبتسم لنجاحه..أمسح القطرات بثيابي.. ابتسم أنا، لن أجعله يلمس شعري.
أرفع رأسي قليلاً، أحاول أن لا أفكر بحزن المطر الآن، هذه امرأة، لون ثيابها ورديّ، يشبه الربيع.. تضع على رأسها كيسًا من النايلون ليحميها من المطر. تركض باتجاهي، أو هكذا أعتقد، تبتسم، تبرر وضع الكيس على رأسها..لم أكن أعلم أنها ستمطر! هكذا قالت لي.. وذهبت.
لكني لم أكتف بأن أقول لها ما يمطر في عقلي.. لم أكن أعلم أنها ستمطر، وأني سأكون في الشارع عندها، أبحث عن سقف إضافيّ، عن احتمالات بناء حواجز ذهنية، كالتي في القلب.. تدفن ما تشاء، كي لا يتبعثر بالمطر مرة أخرى، أو بأمر مخفي منه.
أقف بجانب دكان، أنتظر مرور سيارة الأجرة الأولى إلى حيفا، أراها قادمة من بعيد. لا أغير مكاني، ولا أرفع له يدي.. سائقو هذه السيارات يعرفون من وجوه الناس من ينتظرهم. أوقف السائق سيارته، وركضت باتجاهها قبل أن تلمسني أكثر من قطرتين..
السيارة مليئة بالنساء، سوى السائق. جميعهن يتحسرن على عدم إحضار معطف دافئ، يغضبن، يتفقدن منسوب غرق ثيابهن، وأنا انظر إلى حذائي المصر على أن يبقى صيفاً، وإن كانت المياه التي ستجعله مبلولاً ليست مياه البحر ذات الرائحة الرملية المعتقة أثناء إحدى الليالي الصيفية، التي افتقدها الآن.
يزداد المطر، ويظهر أمامي كمارد شديد الغضب، على ذاته ربما. الطريق من عكا إلى حيفا مكتظة بالناس، بالمظلات والمطر.. طوابير ذكريات، كلٌُ يبحث عن ذكراه، أو يبعدها عنه. هذان حبيبان على ما اعتقد، يمسكان بذكرى ما، كلٌ منهما يحاول شدها إليه.. هذه امرأة، تنظر خلسة وحنين على ذكرى عابرة أمامها، وجه رجل ملصق في الذكرى.. رجل غمر الشيب رأسه.. ولن يعود ليحتضنها باكية..وهذا طفلٌ، يلعب سوية مع ذكرى تحمل سلة هدايا، وقبلات.. يمسك بيديها ويركضان سويًا نحو أمه التي تنتظر في المحطة وتنادي عليه، يصل إليها ممسكًا بذكراه الحلوة، ليذكر أمه أن شيئًا جميلاً قد حصل له في عام المطر الماضي، ليطلب منها إعادة الذكرى.
يتحوّل المطر إلى قطرات متجمدة شفافة، تنهمر على الشوارع والعشب الأصفر، تجد لها سقوفًا ومظلات وقطعًا من الحديد والخشب لتُشكل من ذهولهم ومفاجأتها موسيقى شتائية لخلفية طقس شواء الكستناء ومتعتها.
خمس دقائق، وتنهي معزوفتها. إنها تلهي انعكاسات المطر على نفسي، تجعلني أتأملها وأسمعها، وأراقب الناس الهاربين منها. سنصل إلى بداية حيفا بعد قليل، قوس قزح يمتد فوق كرملها، لقد نجحت السماء في إقناع الشمس بأن تعود قليلاً، وقوس القزح دليلٌ على ذلك.
اقترب إلى مكاني المعهود، الشمس هي مطلبي الوحيد الآن، لتُشكل حاجزًا ذهنيًا يخفف عني سرعة عبور شريط الذكريات في رأسي، واحدة تلو الأخرى.
مطرٌ في عكا، شمسٌ تقترب إلى الدفء في حيفا، ذكريات مبعثرة على الطريق، لا عامل نظافة يلملمها خلف الناس الذين رموها قصدًا. لا قوانين تُحرم رمي الذكريات هكذا، ليأتي المطر الناعم مستمتعًا بفك هدوئها المريح.
كانت الشمس في حيفا مُخلّصًا ضروريًا لعبثية المشاعر الآن، لخجل الأوراق الصفراء المتساقطة.. لاحتمال هجرة طير إضافي.. لامرأة ترتدي الوردي الكاذب، وتضع على رأسها كيسًا من النايلون، مدعيةً أنها تحمي شعرها من المطر.. مثلنا جميعًا.