بقلم : د.شكري الهزيل ... 11.07.2009
تَقدمت بنا السنين بين قصص المُتسللين والكبسات وبين اخبار صندوق العجب والاستماع لصوت فلسطين والبيانات المُشفّره..من الضفدع الى الأسد ..أضرب !! ومن النخله الى الموج..وصلت رسالتكم, وهكذا دواليك, ولكن المعازيب في الشق كانت تستمع دوما الى صوت العرب وخطابات الرئيس الحماسيه!! وكان الاعلان عن ان الرئيس جمال عبدالناصر سَيُلقي خطابا هذه الليله او غدا مَعناه قُدوم المعازيب البدوان بأعداد اكثر من العاده الى الشق [ المضافه], ويتجمع الجميع حول المذياع قبل موعد الخطاب..يشربون القهوه المُره ويتبادلون الحديث بوعي تلك المرحله حول قَدوم الفرج والتحرير على يد عبد الناصر,,,وكان أبي يقتصد[ يوفر] في البطاريات ولا يُشغل صندوق العجب قبل موعد الخطاب خوفا من ان تنفذ البطاريات أثناء الخطاب!! بطاريات الراديو كانت بالنسبه للبدو بضاعه غاليه ونادره!!!
الناس بعفويتها البدويه وبسليقتها العربيه كانت تُصفق مع الراديو عندما يُعلن ان الرئيس عبدالناصر سيُلقي خطابا في الأمه بعد قليل!!! وعند بداية الخطاب يخشَع الجميع ويسود الصمت الى ان يبلغ الخطاب درجة الحماس وتبدأالهتافات والتصفيق الصادره من المذياع,واللذي ينضم اليها معازيب الشق بالتصفيق الحماسي والثناء على رجولة وبطولة جمال عبدالناصر!!..إإبشر يا ابوخالد...حِنا رجالك بالحيف والسيف...قال أحد المعازيب!!, فرد عليه الأخر:: أصمُت يا رَجِل حتى نهاية الخطاب!!!
انتهى خطاب عبدالناصر وبدت معالم البهجه على وجوه المعازيب, وإرتفعت المعنويات الى حَد ان احد المعازيب البدوان قال...سنعزِم الرئيس عندما يُحرر فلسطين وسُنقيم لهُ الأعراس والليالي المِلاح في كُل ربوع النقب!! وقال أخر من أفَمَك الى باب السماء....يا رب الفرج وعودة الغائبين عَمّا قريب!!! الله يُنصرَك ويَحْميك يا ابوخالد!!!!!!!! وهبَت النار في رأس الخروبه ويا عبدالناصر يا حامي العروبه!!!..كان البدو يُسمون اولادهم باسماء بدويه مثل سويلم وسلام وصار الجميع يَقسم نَذرا عليه إذا رزق بولد سَيُسميه جمال!! وهكذا اصبح عندنا جيل كامل من الجمالات....جمال..جمال!!!...أعمار هؤلاء الجمالات اليوم تَدُل على أنهم من مواليد تلك الحُقبه الناصريه!!
لم يعُد الحديث يدور عن المُتسللين, لا بل عن الحرب القادمه لامَحاله, وهؤلاء المُتسللين حسب التحليل البدوي انذاك سيأتون مع عبد الناصر من البوابه الرئيسيه لفلسطين بعد تحريرها من اليهود, وهكذا انتشر الوهم كالنار في الهشيم ومقولة ...عبدالناصر يا حبيب بُكرَه بتُدخل تل ابيب!!
الحركه والاجواء كانت غير عاديه في الباديه..الجو مشحون بالترقُب والخوف والأمل الكبير في ابوخالد, والناس كانت تُخزن بعض من الطعام والدقيق والخُضار الناشفه تَحسُبا من الحرب, ولا صوت يعلى على صوت تَمجيد ابوخالد!!,,,, قال احد المعازيب:: يا خُوفي من هزيمه ما نِقوم مِنها كل العُمر وضياع فلسطين!! فرد عليه الجمع بإستنكار وملامه لهذا القول المُتشائم:: يا رجل اسكُت فال الشيطان ولا فالك!! والله وكمان والله سَيدُك عبدالناصر تل ابيب دكا!!....عبد الناصر ياحبيب أُضرب أُضرب تل ابيب!! ثُم ركب بعدها الربع ظهور بهائمهم عائدين الى خيامهُم مُطمانين لما سَيقوم به الرئيس!!! ..ونحن اطفال الباديه بدأنا نُمارس لعبة الحرب ونتقمص صورة البطل عبد الناصر في معاركنا الوهميه!!!! الجميع كان يريد فقط دور عبدالناصر والجيش العربي!! , ولم يرضى احد ان يلعب دور اسرائيل "المهزومَه" حَتما حسب أجواء تلك الأيام!!! لم يُفكر احد بِإمكانية وإحتمال هزيمة عبد الناصر والعرب!!!
أن حرية الكلمه هي المقدمة الاولى للديموقراطيه!! ولن نستسلم ...وسنُقاتل...هذه كانت اقوال عبدالناصر في صوت العرب!! والناس كانت تستمع لهذا الطخ الكثيف من التعاليق والبيانات اللتي يبثها صوت العرب من القاهره...وبدأت رحلة ومرحلة احمد سعيد!! المُعلق الشهير في صوت العرب...الحرب..وجاءنا ألأن مايلي قامت قوات العدو بشن عدوان غاشم وكانت لها قواتنا البواسل بالمرصاد, وكُليهم ياسماك البحر وهنيئا لكي...ضربنا تل ابيب....ودَكينا مدينة بئر السبع!! قفز احد معازيب الشق وقال هذا الكلام غير صحيح...قبل شوَيه كُنت في المدينه[بئر السبع] ولم اسمع والاحظ شيئا...كل شئ كان عادي!!! وين هُو الطخ والصواريخ المصريه!!
ستة ايام او اقل كانت كافيه لمحق الجيش المصري والجيوش العربيه وَتمحق مَعها احلام وامال الملايين من العرب !! بكى سويلم بكاء شديد بعدما تأكد ان ان رحلة الغائبين[المشردين واللاجئين] من أهله ستطول زمنا طويلا ولربما سيموتوا في المنافي ولن يعودوا الى ديارهُم لا احياء ولا رفات!!! وبكى الكبار والصغار على ما ألت اليه الأمور من هزيمه ماحقه اطلق عليها فيما بعد نكسة حزيران.....نكسه!!؟ ام زلزال مُدمر!!..انا اميل للثانيه!!
طارت عقول الناس وهامت الهامات المُطأطأه في صحاري العقول العربيه, وطار عقل سويلم الذي كان يأمَل ان نتيجة الحرب ستَقود للم شمله مع ابوه وامه واخوته الصغار اللذين َشُردُوا الى الأردن!! سويلم قال: عملنا جاهدا على شراء وتخزين المُونه تَحسُبا للحرب وإستغرق هذا أكثر من اسبوع,,,بينما الحرب لم تستمر أكثر من ستة أيام...عجيب...عجب وغضب رُباني!!!...ثًم إلتَفَت الى مَعازيب الشق قائلا: عَشاكُم اليوم جميعا عَندِي!! اريد ان أتخلص من من مُونة ودقيق وطحين الحرب!! هذ ه المُونه وهذا الطحين..نَحسَه وتجلب الهزائم والكوارث!!! والله ما يَصبح الصباح وعندي حاجه واحده من هذه المُونَه اوغرام واحد من هذا الطحين!!.. قام سويلم بعزومة المعازيب واهل الحي ونحر الماعز والخراف بهذه المُناسبه!!! مُناسبة التخلص من مُونة الحرب النَحسه!!!
لم يأتي المُتسللين القدامى كما ظن معازيب الشق مع عبدالناصر من البوابه الرئيسيه!!, لابل جاءوا من بوابة اسرائيل!!, وتصاريح يمرون بها الى داخل مناطق الوطن الاصلي, ولم يَعُد هناك سسبب للتسلل بعدما إحتلت اسرائيل كُل فلسطين..فالجميع الأن في الهوى وألأسى سوى ..تحت الاحتلال!! والعُبور من الضفه الى القطاع لايحتاج للمُغامره والتسلل لابل الى تصريح مُرور من ضابط اسرائيلي يجلس في غزه او رام الله او الخليل!! توحَد الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الاسرائيلي بعد غياب وفُرقه استغرقت حوالي عشرون عاما !! وبدلامن ان يُحرر عبدالناصر فلسطين, تحتل اسرائيل الأن ايضا صحراء سيناء, لا بل ان الجنود الاسرائيليين يَستحمون الأن في قناة السويس!!
لم تَمُر إلا بضعة ايام على هزيمة حزيران حتى وجاء الى خيمة والدي في الصباح الباكر كمنكر [جيب] جيش نزل مِنهُ ضابط اسرائيلي يحمل ورقه وقلم وكما يبدو ملف سري حول علاقة والدي بالمتسللين!! الورقه كانت تحمل أمر عسكري بتحديد حركة وإقامة والدي,,ومَنعَهُ منعا باتا من دخول غزه والضفه الغربيه!![ كثير من الناس في هذه الفتره سواء من غزه او مناطق الداخل كانوا يحاولون الحصول على تصريح اسرائيلي يُخولهُم زيارة اقاربهُم,..وهذا ماكان يَحدُث]!! فيما بعد تبين ان الاسرائيليين كانوا يَخشُون من تجديد والدي علا قته مع المُتسللين بشكل قانوني!!...تصريح اسرائيلي!!..وقد يُشكل هذا خطرا امنيا على اسرائيل!!
لقد حصل الكثير من المُتسللين القدامى على تصاريح اسرائيليه وقاموا بزيارة والدي وتقديم الشكر لَه على مابذله من جهود ومُساعدات لزوار الليل وضيوف الرحمن..المُتسللين الفلسطينيون عَبِر والى وطنهم فلسطين!!!,ولكن الاقامه الجبريه والحركه المُحدده وامر منع دخول غزه بقي ساريا على والدي أكثر من اربع سنوات بعد احتلال غزه!! ثُم سقط تِلقائيا بعد ان تأكدت اسرائيل من عدم جدوى إعتقال اومنع بدوي في الوقت اللذي كان بإمكانها هزيمة امه كامله!!!
رحل ابي الى ارض أُمه القريبه من المدارس والشارع الرئيسي, ولكن المغاره اللتي اصبحت فعلا بعيده عن مسكننا الجديد,بقيت مركز الرعايه وعماد إقتصادنا, وقدإزدادت وحشه في الفلا والخلا الخالي من البشر ماعدى نحن ومواشينا! أبي هذا رحل بالفعل الى ارض أُمه وهي حاله فريده بين البدو ان يورث الابناء مُلك أمهاتَهُم,,, وقصة والدة والدي أنها كانت وحيدة ابوها اللتي ورثت عنه ارض واملاك لا بأس بها, وقد قامت كما يبدو بتقسيمها على ابناءها الثلاثه قبل موتها, ولم تمنح زوجها اي شئ من املاكها, وابي كان احد الورثه الثلاثه!!!
حرص ابي في حياته وحتى موته ان يتزوج فقط من إمراه واحده إستنادا لتجربته وطفولته كما يبدو...لقد توفت والدته وهو في سن صغيره!!! رغم ان ابي اسمى إبنته باسم أُمه , إلا أنَّهُ وكما يبدو بقي العُمركله يبحث عن حنان أُمه المفقود من خلال عواطف واحاسيس جَيَاشه!!!, لكن السبب الرئيسسي اللذي يجعلني أكتب هنا عن والدي كحاله خاصه, هو وطنيته العفويه وتمسكه الشديد بألأرض والحق, وقد امضى عُمره كُله يُقارع اسرائيل في "محاكم" اسرائيل,,تارة يُصادرون ارضه ,,, وأخرى يُستأنف ويوكل المحامي تلوى المحامي بالدفاع عن الارض والحق, وقد باع الرزقه والمواشي ووصل اكثر من مره الى حالة شبه إفلاس بسبب التكاليف العاليه اللذي كان يدفعها للمحاكم والمحاميين....كان دائما يُراهن على الزمن وعدم الاستسلام باي شكل من الاشكال امام الإغراءات الاسرائيليه اللتي كانت تُحاول إغراءه بالمال مُقابل التنازل عن ارضه وارض اُمه في فلسطين...بقي يُردِد العُمر كُله ماقالهُ لَه حاكم ما يُسمى بالمحكمه المركزيه في بئر السبع....قال لهُ هذا الحاكم اليهودي: لايوجد في هذه البلاد شئ إسمه ارض او مُلك عرب.. كل الأرض والبلاد للدوله واليهود!!...فأجابه ابي بغضب: إذا كان هذا هو حال العدل عندكُم ,فانت كما يبدو حاكم وحرامِي في نفس الوقت!!...فقام الحاكم بتقديم تُهمة إهانة الحاكم والدوله لأبي ودفع الأخير فيما بعد غرامه وسجن مع وقف التنفيذ!!