أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
زرافشانية سيوشي..!!

بقلم :  بيروت حمود* ... 14.07.2009

بين القيراطين اللذين أهدتني إياهما استانبول في طريق العودة إلى الوطن وحيفا، ظل مزخرف.
أوزباكستان أكدت لي اليوم أنه وحدهم أمثال آرثر شوبنهاور يمكن البت في كونهم حمقى .
أتساءل: ماذا لو أن القدر ليس قلم حبر يتمشى في أعطاف حياتنا كما شاءت له ريشته المدللة أن يفعل؟! ماذا لو أن المرأة المسكينة لم ترد زيارة زوجها الراقد في مشفى "رمبام" لأن عطلاً جسديا أجَّلَ نبض قلبه إلى أجَلٍ غير مسمى؟! ولو أنها لم تصعد إلى الـ"سيرفيس" عينها التي كنت فيها؟!
ماذا لو أن الزانية الروسية لم تسرق عقل السائق بصدرها الكبير ومؤخرتها المغرية، فراح يتذرع بأن زوجته تعرضت لحادث طرق، وعليه فإنه مضطر للاطمئنان عليها، ونحن بدورنا علينا أن ننتقل من السيرفيس التي كنا نركبها إلى سيرفيس أخرى؟!
هل كنت سأحظى بحب سيوشي ذلك القلب الذي أضاء إنسانيتي؟!.
النافذة الزجاجية التي كانت على يساري منحتني بشفافيتها المرة شرعية البكاء في زمنٍ تجاوز فيه "المنطق" حدود الأنانية.
رحت أفتش في الراكبين عن معنىً للحياة :
"مارليبورو" – كنية عجوز ذي لحية بيضاء طويلة، يحمل أكياسًا فيها تبغ من نوع مارليبورو في يده، وعكاز خشبي، وغليون.
يصعد كل يوم في مثل هذه الساعة المتواضعة من النهار، كما اتضح لي من الحديث الذي دار بين الركاب، يجلس في المقعد الرابع، يمرر قطعة نقود من فئة خمسة شواقل في أيدِ الركاب حتى تصل إلى يد السائق، فيقول الجالس خلف مقعد السائق بالتحديد "خذ هذه من مارليبورو"، فيضحك "مارليبورو" و"كادور أبو كسيس".
و"كادور أبو كسيس" هذا شاب من جنود البحرية الإسرائيلية، كما اتضح من لون بزته العسكرية. يلقبونه بـ"أبو كسيس" لأنه كلما صعد إلى السيرفيس عائدًا من الخدمة العسكرية إلى بيته، يكون حاملا ً، عدا عن البندقية التي على كتفه، كرة قدم. ولأن وجهه بالصدفة يشبهه وجهه لاعب الكرة الإسرائيلي "أبو كسيس".
ضحكت ملء فمي، إلا أن "كادور أبو كسيس" لم تعجبه نبرة الفرح التي أطلقتها، فراح يرسل إلي نظرات احتقار، كانت أجواء حافلة "361" في شركة "إيجد"، قد عودتني عليها.
سيوشي امرأة خمسينية، شعرها أحمر، ولها عينان زجاجيتان خفيفتان، تؤثثهما عوينات طببية، تحمل ذاكرتها كلها في كيس شفاف.
تسافر سيوشي من "كريات بيالك"- كل خميس، إلى مدينة حيفا، إلى مكان ما في شارع "شبتاي ليفي" لتعطي أحدهم دروسًا في الموسيقى على آلة البيانو.
لم تكد تضع مؤخرتها على سطح المقعد، حتى راحت تخرج صورًا لمسقط رأسها، تفرد ذاكرتها شرشفًا من المسولين الليموني على أردافها وتبتسم في سرها.
كنت أحاول أن أتلصص بين الفينة والأخرى على ذاكرتها.. إلا أن كرسيًا كان قد حجز مسبقًا لعينيَ المشلولة.
متى سترفع الأقدار رايتها البيضاء؟ وتكف عن طبخ السخرية؟. هذه الروسية – للوهلة الأولى اعتقدت أن سيوشي روسية، تخرج صورًا من كيسها، لتمارس اشتياقها في بؤس اللحظة لبلد يسكنها ولا تسكنه، مع أن الحياة منحتها حرية الاختيار بين "هآرتس" (البلاد) ومسقط رأسها، بينما الملايين في مخيمات اللجوء كانوا قد حفظوا لفرط ولعهم بوطن هجروا منه خريطته شبرًا شبرًا، إلا أن سخرية الأقدار تعجن مستحيل عودتهم كل لحظة.
رحت أبكي بصمت، بخوف، ورجاء، أتوسل إلى إنسانية سيوشي أن تلف عينيَّ بسياج دفء.
سيوشي لديها عجزان: واحد في العينين، وآخر في الأذنين، إلا أنها رفعت وجهها دفعة واحدة، حضنت راحتيها ما تبقى في جسدي من حياة، وراحت تحاول بكل قواها، وعبريتها المكسرة، أن تخيط لي معطفًا من الكلماتِ يدثر قلبي: "لا تبكِ يا قلبي، لو ذهب حبيبك الشاب سيأتي واحدًا آخر ليحبك.. أنظري إلى نفسك في المرآة.. هل هناك أجمل من هذا الوجه؟!..لا تبكِ أرجوكِ.. كم عمرك؟.. سبعة عشر عامًا، آووه أنت صغيرة على الحزن، هل يتسع قلبك للألم؟!.. لا أظن".
كان شيء ما في عقلي يرفض هذه الصيغة، فتوقفت للحظة عن البكاء وسألتها:
- من أي بلد أنت؟
- "كريات بيالك"..
- لا.. لا.. أقصد مسقط رأسك، بلدك الذي كنت تعيشين فيه قبل قدومك إلى "هآرتس"؟!
أخرجت الصور مرة أخرى من الكيس وراحت تريني إياها. قالت :
- أنا من أوزباكستان، من مدينة سمرقند - واحة زرافشان.
صمتت.
سألتها:
- هل تشتاقين إليها؟ من تحبين أكثر أوزباكستان أم "هآرتس"؟
ابتسمت، وقالت:
- طبعًا أوزباكستان.. ماذا في "هآرتس"؟! حرب ..فقط حرب..
وأردفت: مع هذا "هآرتس" جميلة.. وعليكِ أن تحافظي على الطاقة الايجابية في قلبك.. صلي للرب، في قلبك موسيقى، فرح وحياة.. عديني أن لا تبكي بعد اليوم..
نزلنا معًا.. أنا يجمعني بشارع "شبتاي ليفي" قلبي والوطن.. سيوشي تجمعها الموسيقى وقلبها.
وضعت في راحتيها القيراطين، ووعدتها أن أفي بوعدي قائلة: ستكونين ظلي المزخرف، هذان القيراطان يعنيان لي الكثير.. لن تكون سمرقند أو "هآرتس" ما يربطنا.. ستكون استانبول جسرًا بين قلبينا..
قبلتها.. قبلتني.. وافترقنا..

*كاتبه فلسطينيه