بقلم : حسين الهاشمي* ... 12.11.2009
يبدو تشكيلُ أيِّ نصٍّ؛ خاضعًا لمعاييرَ عدّةٍ، مِن بينِها المعيارِ اللّغويِّ والتّخيُّليِّ، وتلعبُ خصوصيّةُ أيِّ بناءٍ نَصِّيٍّ ومقدرتُه أيضًا، دوْرًا في إضافةِ وتمويلِ هيكليّتِهِ، ضِمْنَ شبكةٍ مِنَ العلاقاتِ الّتي تُؤثِّرُ وتتأثّرُ بالسّياقِ الحِسّيِّ الخاصِّ لشِعريّةِ اللّغةِ، في مستوياتِها الصُّوريّةِ والمعنويّةِ معًا، وبإيعازٍ مِن تاريخِ الرّوحِ، إذ لا تاريخَ غيرَ تاريخِ الرّوحِ - كما يقولُ سان جون بيرس -. لذا؛
لا يمكنُ الفصْلُ بينَ المُكوّنِ اللّغويِّ لأيِّ نصٍّ، وبينَ الأفقِ التّخيّليِّ لهُ بعيدًا عن شعوريّةِ الانتماءِ الرّوحيِّ لهما، مثلما هو الانتماءُ الجسديُّ أو الماديُّ لأيِّ مكوِّنٍ حسّيٍّ بصريٍّ مؤثِّرٍ، ويُخلّفُ أثرًا فيهِ، يُشبهُ الوميضَ الخاطفِ.
هكذا يمكنُ ملامسة خصوصيّةِ النّصِّ لدى الشّاعرةِ المميّزةِ - آمال عوّاد رضوان - في مُجملِ أعمالِها الشّعريّةِ، لاسيّما في نَصِّها – زغبٌ شمعيٌّ - بدْءًا مِنَ العنْوَنةِ أو - ثريّا النّصّ - كما يُعرَف، وانتهاءً بآخِرِ مقطعٍ فيهِ، حيثُ يُلاحَظُ القصديّةُ الواضحةُ في الاشتغالِ معَ انسيابِها العفويِّ والتّلقائيِّ أيضًا، في تأثيثِ المُحتوى الشّعريِّ في آنٍ معًا، وهو تداخلٌ وتزاوجٌ طبيعيٌّ في بُنيةِ الاشتغالِ الشِّعريِّ، بينَ الوعيِ واللاّوعيِ، دونَ أن يُشكِّلَ في المسارِ العامِّ اضطرابًا، وخلخلةً في المناخِ الخاصِّ الّذي تُقيمُ فيهِ، وتعتاشُ على تأثيثِهِ بشكلٍ سِرِّيٍّ وعَلَنِيٍّ، وهي تسكُبُ عصارةَ ألوانِها في اللّوحةِ الواحدةِ..
هِيَ ذي فَوانيسُ الحَياةِ
تُغازِلُ ذُبالاتِها الحالِمَة
تَخْتالُ عَلى صَفَحاتِ الزَّمانِ
بِمَدادِ دَمْعٍ سِرِّيٍّ
تَخُطُّ زَغَبًا شَمْعِيًّا
عَلى
أَجْنِحَةِ مُنىً حاسِرَة
يُلاحَظُ استخدامُ مفرداتٍ مِن مثلِ – ذبالات- مدادُ دمْعٍ - زغبٌ شَمعيٌّ – أجنحةٌ، فالمستوى الإشاريُّ لها يوحي؛ بأنَّ منظومةَ النّصِّ اللّغويّةِ معقودةُ الصّلةِ، بحركةِ المستوى الحسّيِّ والشّعوريِّ، والمُرتهن بحركةِ السّيولةِ الّتي تبثُّها دلالاتُ النّصِّ، وبالتّالي، سيكونُ تمهيدًا بارعًا ومُهمًّا، لتوليدِ الصّورةِ الشّعريّةِ مِن بُعدِها العامِّ إلى الخاصّ، أيّ صورة – فوانيس الحياة - الّتي ستكشفُ عن سيولةِ الإحساسِ الجوّانيِّ الوجدانيِّ، على أجنحةِ منًى حاسِرةٍ!
و"تخطُّ زغبًا شمعيًّا بمدادِ دمْعٍ سرّيٍّ"، حركةُ السّيولةِ قائمةٌ في بُعدِها الصّوَرِيِّ والتّشكيليِّ، مثلما هي قائمةٌ في بُعدِها التّخيّليِّ، لتُشكِّلَ بُنيةً فاعلةً في هذا النّصِّ وفي غيرِهِ مِنَ النّصوصِ الأخرى في المجموعةِ.. كما إنَّ اعتمادَ الشّاعرةِ على اشتغالِ المقاطعِ، يوحي لنا بالتّنظيمِ والتّكثيفِ والاختزالِ، وهو ما يُعطي بُعدًا إيحائيًّا صادمًا لوميضِ الدّلالاتِ المُستخدَمةِ، والّتي تَستثمرُ ثنائيّاتِ التّقابلِ المتوازيةِ، في تمثيلِها الاستعاريِّ والمجازيِّ، بمرونةٍ مُرهَفةٍ وشديدةِ الحساسيّةِ، وبتصعيدٍ خفِيٍّ ينمو ضِمنَ النّسَقِ الهارمونيِّ العامّ، دونَ أن نَشعُرَ بذلك، فالشّاعرةُ لا تصرخُ ولا تفتعلُ ولا تُترجمُ الوجعَ وتَشْرحُهُ كي تصلَ إلينا، بل تمارسُ عمليّةَ الانسلالِ بخفّةٍ ورشاقةٍ وسيولةٍ منظّمةٍ وموحِيةٍ:
عَلى
شَواطِئِ السَّرابِ الهارِبِ إلَيَّ
تَتَهَلَّلُ أَقْداحُ العَتْمَةِ بِقُبْلَةٍ
تَتَسايَلُ لَهيبَ لِقاءٍ
عَلى
شِفاهِ غِيابِكَ الفَحْمِيِّ
اُنظرِ التّقابلاتِ الدّلاليّةَ الثّنائيّةَ الّتي أشرْنا إليها، في هذا المقطع المذكور:
شواطئِ السّراب - أقداحُ العتمةِ - غيابِكِ الفحميِّ - ثمّةَ رابطٌ خفيٌّ مشتركٌ يجمعُ في تمثيلِها الاستعاريِّ والمجازيِّ كما أشرْنا، ولكن ضرورةَ التّصعيدِ الشّعوريِّ أو الحسّيِّ فيها، يستلزمُ التّنوّعَ والتّعدّديّةَ في رسْمِ أشكالِها المرسومةِ ومحتواها، ضِمنَ الدَّفْقِ الرّوحيِّ والمعنويِّ للنّصِّ، وهو الّذي يُهيمنُ على تدفّقِ النّصِّ، ويَحكمُ سيولتَهُ الشّكليّةَ والمضمونيّةَ، لتستمرَّ عمليّةَ الضّخِّ الشّعريِّ وِفقَ تلك الثّنائيّاتِ المتبادَلةِ والمتقابلةِ، في سيولتِها البِنائيّةِ والمعنويّةِ، ضمنَ النّسيجِ العامِّ للعمل:
عَذارى الأشْجانِ
تولِمُ مَحافِلَ الحُزْنِ
تَقْضِمُ تُفّاحَةَ الفُؤادِ
يَنْدَسُّ نَبيذُ حُسْنِها في دَمِ المَوْجِ
يَثْمَلُ بَحْرُ القَلْبِ رَهْبَةً
وَعَلى
أَمْواجٍ سادِرَةٍ
تُراقِصُ مُسُوحَ الخَيالِ
تَسْتَمْطِرُ عَفْوَكَ الصَّخْرِيِّ
ولأنَّ تأثيثَ النّصِّ لا يمكنُ استجلاء الشّعريّة فيه، مِن دونِ معاينةِ واستكشافِ الإحداثيّاتِ، والموجِّهاتِ الّتي تعتملُ في توليدِ العلاقةِ بينَ اللّغةِ وبينَ الفضاءِ الكلّيِّ للرّؤيا الشّعريّةِ، وبينَ الذّاكرةِ والخيالِ والتّبصّرِ معًا، تَداخُلُ الموجّهاتِ تلك وتفاعلُها، مِن شأنِهِ أن يَكشفَ لنا عن طبيعةِ وهويّةِ النّصِّ، وهو يقترحُ أدواتِهِ الاستعماليّةَ والثّقافيّةَ، ليبثَّها مِن خلالِ موشورِهِ القادرِ على توليدِ المعنى والرّؤى والأفكارِ بطريقةٍ ما، تُسهمُ في إشراكِ المتلقّي في خوضِ عمليّةِ القراءةِ، وإعادةِ إنتاجِ النّصّ ثانيةً، ذلكَ ما يمنحُ النّصَّ حياةً ثانيةً، تُخرجُهُ مِن قوقعةِ الاحتكارِ اللّغويِّ والبلاغيِّ، إلى مستوياتِ التّحوّلِ الذّهنيِّ والرُّؤيويِّ، كأثرٍ تواصليٍّ ومتحرِّكٍ بين الإرسالِ والتّلقّي.
ومِن خلالِ هذا أيضًا، لا يمكنُ تحميل النّصِّ أكثرَ مِن قدرتِهِ على تأثيثِ بواعثِهِ وموجّهاتِهِ إلى الآخَرِ، الّذي يفترضُ وجودَ المحمولِ الفكريِّ والمعرفيِّ للنّصِّ، قبلَ الخوضِ فيه، واستجلاءَ خصوصيّتِهِ ومعالمِهِ العامّةِ والخاصّةِ، ما لم تتوفّرِ القدرةُ على التّمييزِ بينَ نصوصٍ تَدّعي محمولاتها بشكلٍ قسْريِّ، ونصوصٍ تستثيرُ كوامنَها خِفيةً بشكلٍ ضِمنيٍّ، ضِمنَ النّسيجِ الوجدانيِّ والعاطفيِّ التّلقائيِّ لشخصيّةِ الشّاعرِ، وخصوصيّةِ النّصِّ المقترح ..
في - زغبٌ شمعيٌّ - كما أسلفنا، ثمّةَ مُوجّهاتٌ استعماليّةٌ تُحرّكُ النّصَّ بينَ مستويَيْنِ بارزَيْنِ؛
الأوّلُ يُنتجُ الصّورةَ، ليَدخلَ أفقَها الحسّيَّ والوجدانيَّ، بتجريدِها المفتوحِ غيرِ الملموس!
والآخرُ يَدخلُ بمفاتيحِ التّجسيدِ الّتي تَدُلُّ على مَبعثِها الأصليِّ والملموسِ، تلكَ الصّورةُ المُركّبةُ لا تعتمدُ التّضليلَ والتّعتيمَ قطْعًا، بل العكس، تمنحُنا قوّةَ التّواصلِ والجاذبيّةِ، ومتعةَ الإيحاءِ، لأنّها بُنيَتْ على أساسٍ شعوريٍّ ممغنَطٍ بجاذبيّةِ الجسدِ والرّوح معًا، بالتّجريدِ والتّجسيدِ، بالمرئيِّ وغيرِ المرئيِّ، بالملموسِ وغيرِ الملموسِ وهكذا، ضِمنَ البُنى العاطفيّةِ والوجدانيّةِ ذاتِ الاتّجاهِ والقيمةِ الفنّيّةِ، والأداءِ المُفعَمِ بالحِسِّ المُرهَفِ:
تَماثيلُ المِلْحِ تَخِرُّ
في مَتاهاتِ الأَحْلامِ
يَئِنُّ خَريرُ عَتَباتِ الوَفاءِ
*
أَيُّهذا السّاهي
عَلى
صَفْحَةِ الصَّمْتِ
تَنْحَتُ وُجوهًا في مَرايا المَصيرِ
هِيَ ذي رُموشُ العَطَشِ
تَسْتَسْقي مِنْكَ آمالاً
تُلْقي سُحُبُ دَمْعِكَ مَراسيها
تُنْهِدُ فَراغَ أَباريقِكَ بِأَطْيافِها
وَهُوَ ذا سِراجُ سُكونِكَ
يَكْبو غُبارُهُ في رَذاذِ نَوافيري
إنَّ الشّاعرةَ ومِن خلالِ سيولةِ الإحساسِ الذّاتيِّ، والمقتَرنِ بسيولةِ إحساسِها باللّغةِ؛ تقترحُ نموذجًا لعلاقةٍ بين فضاءيْنِ مُتوازييْنِ، أحدُهما داخليٌّ والآخرُ خارجيٌّ، فتبدو اللّوحةُ الشِّعريَّةُ مغموسةً بألوانِ حِسِّها الجَماليِّ والعاطفيِّ، بتشكيلٍ غيرِ تتابُعِيّ، وِفقَ فرشاتِها الضّاربةِ المتنوّعةِ بتوزيعاتِها هنا وهناك، يُغذّيها وجعٌ سِرِّيٌّ يَمُرُّ رشيقًا مِن خلفِ انتباهِ القارئِ، ولكن مجموع تلكَ الضّرباتِ التّشكيليّةِ في النّهايةِ، هي الّتي ستُكوِّنُ الإثارةَ الشِّعريّةَ، الّتي تدعونا للتّأمُّل في القدرةِ النّصّيّةِ عمومًا، في الإفصاحِ عن الذّاتِ الشّاعرةِ، وهيَ تُعاني مِن تَكدُّسِ هاجسِ الغيابِ والحضورِ، في ثنائيّتِهِ بينَ الأنا والآخر، بينما نكونُ مأخوذين بمساربِ تلكَ السّيولةِ الشِّعريّةِ الّتي تُؤثِّثُ لحضورِها المُتوهِّجِ، كشاعرةٍ للحُبِّ والجَمالِ والحِسِّ الإنسانيِّ البليغ:
بِعَبَثٍ فارِهٍ
تَتَمَرَّدُ أَلْوانُ الكُحْلِ في عَيْنِ السُّهادِ
تَغْدو لَياليكَ طاحونَةَ ذِكْرَياتٍ
تَطْحَنُ مِلْحَ النَّوْمِ
فَيَذْروهُ دَمْعُ العَتْمِ
*
بِمَطاراتِ عُزوفي
عَبَّرْتُكَ خِلْسَةً في قافِلَةِ الأَغْرابِ
مَلأْتُ بِحَصادِ يَأْسِكَ
حَقائِبَ قَلْبي المُثْقَلَةَ بِكَ
*
أشْواكُ رَحيلِكَ تَخِزُ أَعْصابَ الزَّنابِقِ
سَتائِرُ ماضٍ تَتَمَرَّغُ لَوْعَةً
في جَنَباتِ اللَّيْلِ
تَتَذاءَبُ عُيونُ خَيالي
مَوْجَةُ ماءٍ تُشْعِلُها
مَوْجَةُ نارٍ تُطْفِئُها
وَفي خِباءِ الأبْجَدِيَّةِ
تَسْتَأْنِسُ بِحِضْنِ ضَوْئِكَ