أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
على عتبة غيمة تلوذ في قاع القلب!!

بقلم : ياسمينة صالح* ... 29.07.2009

عند مدخل الغربة يبدو الانتظار شهيا، حيث لا أحد يراقب شبيهه، في شتات الريح التي تتطفل على الرصيف المحاذي للدهشة. كل ما يخلو من بهجة يتحوّل إلى كلام يومي، وكل الكلام أصبح متعة الحالمين بالحب. حيث لا ضرر ولا ضرار. قالت تخاطب فراشة حطت على ربطة عنقه "ليس ثمة شيء يجبرنا على البقاء، ولا شيء سيجبرنا على العودة إلى الوراء." وانتظرت رده. كان غائبا كفكرة طيّرها الهم. من المستحيل أن تعود الأمور إلى بدايتها. لا شيء يعود بريئا ولا عفويا كما كان، والأطفال يتجردون من البراءة حين يكبرون، لأنهم لن يتورطوا في الحلم طويلا. يكبرون لمواجهة همومهم الكبيرة بدهشة لم تعد عفوية ولم تعد طفولية. قالها في نفسه وهو يحس بها ترتعش أمامه. فكّر أن ينزع سترته ويحيط بها كتفيها كما يفعل أي رجل متحضر. لكنه كان بردانا أيضا. هل يمكن التجرد من البرد بفكرة؟ فكر في ذلك وهو ينظر نحو جهة اليقين. سفينة كانت تغادر الميناء بكامل كرامتها. قال: "ليتني مثلها". طوقت ذراعه و قالت: "من المستحيل أن تبقى مشردا طول العمر." واستغرب جملتها. ألم يعد العمر مشردا أيضا؟ حتى الأشياء البسيطة تتقمص الرحيل والتشرد عن قناعة أنها تفعل ما قُدّر لها القيام به. تغادر دون التفاتة إلى الوراء كمن يتجرد من ذاكرة كانت له وأصبحت لشخص آخر سيلبسها مقتنعا أنها قدره. "لا بد لنا أن نعود إلى البيت ذات يوم." قالها وهو يدس يديه داخل جيب سترته. لم يعد الأمر يستحق كل هذا العناء !
*****
على أرصفة الغربة، كل شيء يبدو قابلا للتفسير، حتى الأذى. هل يمكن أن يعيش سعيدا في بلد ليس له؟ لا يحمل أوراقه؟ فكر أن الشرطة تطارده لأنه لم يعد شرعيا في بقائه على هذه الأرض. تمنى أن يقول للشرطي الذي طارده أمس وأول أمس: اهدأ قليلا ودعنا نرتشف قهوة ونتعارف معا، قد نصبح صديقين، وقد تجد لي مساحة للحياة وتعترف أنني مثلك، أحلم بما تحلم به، وأسعى إلى ما تسعى إليه. فليكن الحلم إنسانيا مجردا من الجنسية كصلاة نؤديها نحو إله واحد". لكنه تذكر أنه مطارد في بلده أيضا، وأنه سيعتقل بمجرد وصوله إلى المطار كأي مشتبه به. فلم يرحل كما يرحل الناس، رحل متنكرا حاملا حقيبة خالية من البهجة. استطاع أن يهرب على متن قارب كان يضم عشرين شخصا مثله، وإن توقع أن يموت في عرض البحر، إلا أنه لم يمت. لكنه ظل مطاردا يبحث عن ذات الحياة التي ركب البحر لأجلها، وعن ذات الكرامة التي حلم بها. لم يكن يشعر بالحزن على نفسه، بل على والدته التي تركها خلفه. وعدها برسالة كل أسبوع، وبأشياء كان يدرك أنه لن يفعلها. وكانت تصدق حرارة وعوده على استحالتها، فأجمل الوعود هي التي نؤمن أنها صادقة حتى لو لم تتحقق ! كان على استعداد أن يعيش هاربا طول عمره لو لم يلتقيها في مساحة غربته وتشرده. هل كان عليه أن يجرّها إلى الهرب باسم الحب. ؟ لكنه الحب الذي جره للهرب إليها، وجعله يفقد الرغبة في التشرد. صار راغبا في البقاء ها هنا منتظرا مرور عربة الشرطة لتعيده معها إلى الوطن. سيكون جميلا أن يعودا معا بذات التهمة. قالها في نفسه وهو ينظر إليها. كانت ترتعش وهي ترفع عينيها إليه: "هل سنبقى هكذا؟" قالتها من جديد وابتسم فجأة. ضغط على يدها وهو يقول: "لا، لن نبقى مشردين دائما." "هل سنعود؟" سنسلم أنفسنا للشرطة. وسيعيدوننا إلى الوطن أسرع مما تتصورين. "وماذا سيفعل بنا الوطن؟" سيحبنا على طريقته ! قالها وهو يبتسم من جديد.
*****
هنا على فوهة الحقيقة القابلة للعرض يقفان، في مطار يحيلهما على التفاصيل التي يبدأ منها التساؤل الصعب. كان مبتسما وهو يحط على الأرض الأولى التي ولدته. قال لأمه التي جاءته تجر عمرها المتعب: "لن أكون بعيدا عنك بعد الآن". بكته وهي تلمح آثار ضرب على وجهه. لا يهم. قالها في نفسه وهو يتلمس وردة استقرت في قلبه. لا شيء كان له ليحزن عليه، لكنه يعود اليوم كهارب مكبل اليدين، يعود مع حبيبة. ستعتني بها أمه إلى أن يعود إليهما. تمنى لو لبى الشرطي رغبته في فك يديه من القيد لأجل كرامته أمام أمه وأصحابه. لكنه رفض وهو يذكّره بالتهمة المنسوبة إليه: "الهجرة غير الشرعية عقابها شديد." قالها له وهو يزيح نظره عنه. ابتسم في وجه أمه التي ضمته، قال يحاول أن يكون صوته طبيعيا: "لا تحزني. لقد عدت الآن." قالها ومشى نحو سيارة الشرطة التي كانت تنتظر خارجا. رفع عينيه إلى السماء وابتسم.

*روائيه جزائريه...** ترجم هذا النص إلى الفرنسية ضمن كتاب " نصوص من العالم " الصادر عن منشورات " إيترانجير" الفرنسية.