بقلم : د.فيصل القاسم ... 13.11.06
لا شك أن السواد الأعظم من الشعب العربي، من المحيط إلى الخليج، أصبح يُصاب بقشعريرة قوية عندما يسمع كلمات "إصلاح" أو "تحرير" أو"ديمقراطية"، لا لشيء، إلا لأنه أدرك أخيراً معناها الحقيقي. ولو كانت شعوبنا أكثر اطلاعاً على التاريخ لما انتظرت كل ذلك الوقت كي تعي الأهداف الحقيقية من وراء تعويم تلك الخرافات والأساطير الإصلاحية والتحريرية والديمقراطية المزعومة التي سادت أجواءنا الإعلامية والسياسية على مدى الأعوام الثلاثة الماضية. فكل الحملات الاستعمارية رفعت شعارات نبيلة لإلهاء الشعوب، وتخديرها، وتسهيل مهمة افتراسها، ونهب ثرواتها. ولا داعي للتذكير بشعارات التنوير الشهيرة التي كانت ترفعها القوى الاستعمارية قبيل الانقضاض على هذا البلد أو ذاك. لكن بما أن البعض ما زال يصدق تلك الترهات، ويعول على مروجيها لتحقيق الإصلاح وتحرير الشعوب الرازحة تحت الظلم والطغيان ونشر الديمقراطية، فلابد إذن من إلقاء مزيد من الضوء على هذه القضية كي تـُزال الغشاوة تماماً عن أبصار الذين مازالوا متعلقين بأوهام الإصلاح والتحرير الغربية الموعودة.
لنبدأ بالعراق، فقد تم إصلاحه على طريقة ذلك الضابط الأمريكي الشهير في فيتنام، الذي أمر قواته بتدمير قرية عن بكرة أبيها. ولما سألوه عن فعلته الشنيعة تلك أجاب حرفياً: "كان لا بد من تدمير القرية كي ننقذها ونصلحها". وهكذا أمر العراق، فقد أنقذوه وأصلحوه بتدمير بنيته التحتية، وتخريب معالمه الحضارية، وتفكيك دولته الحديثة، وتسريح جيشه، وإعادته إلى العصر الحجري حضارياً، كما توعد رامسفيلد وأوفى بوعيده، وتحويله إلى غابة تحكمها الوحوش من كل الأصناف. هذا على الصعيد المادي، أما على الصعيد السياسي، فقد حولوه إلى واحة للمافيات والعصابات ، حيث لا يوجد مثيل للعراق في العالم الآن، إلا أفغانستان والصومال، وهما مضرب المثل في التفكك، والتسيب، والخراب، والفلتان، والطائفية، والتشرذم، واللصوصية، وغياب الدولة. لقد كان الإصلاح كلمة السر لتفتيت العراق، وتحويله إلى ملل ونحل متقاتلة ومتصارعة ومتذابحة. وبدلاً من تحريره من الاستبداد، حرروه من قيمه، ولقمة عيشه، ومائه، وخبزه اليومي، وبتروله، واستقراره، وتاريخه، وكرامته. أما ديمقراطياً، فقد عادوا به إلى عصر ما قبل الدولة الوطنية، أي إلى القرن الخامس عشر. ويحدثونك عن الإصلاح والتحرير والديمقراطية!!!!
وليت اللبنانيين تعلموا من التجربة العراقية، فمازال قادة طوائفه يتصرفون كما لو أنهم لم يسمعوا بما حدث لأشقائهم العراقيين. لا أدري لماذا لم يعوا كيف تمت لبننة العراق في وضح النهار! ومع ذلك فهم في غيهم يعمهون. ماذا كانت نتيجة وعود التحرير والإصلاح والديمقراطية للبنانيين؟ لقد تحرر البنانيون من دولتهم التي أنفقوا عليها الغالي والرخيص على مدى عقد ونصف العقد من الزمان، فبعد أن نجحوا بمساعدة إخوانهم في إعادة بناء بلدهم، ودولتهم، وجيشهم، واقتصادهم، على أساس وطني حديث عادوا ليدمروا كل ما بنوه اعتماداً على الوعود الأمريكية بالإصلاح والتطوير. ثم جاءت إسرائيل لتكمل المهة بتدمير الشجر والحجر والبشر. هل يختلف الوضع اللبناني عن الوضع العراقي؟ بالطبع لا، فقد تلبنن العراق، أما لبنان فهو في طريقه إلى الأفغنة والصوملة، أي أنه أهدى أمراضه للعراق ليُبتلى بأمراض الصومال وأفغانستان، أي من سيئ إلى أسوأ. فإذا كان المقصود أمريكياً من إصلاح لبنان إعادته إلى عصر الحرب الأهلية وغياب الدولة وتدمير اقتصاده، فلا شك أن الإصلاح حقق مراده على أكمل وجه. وإذا كان تحريره كان يعني التخلص من الوجود السوري على أراضيه فهو يعني أيضاً انهيار لبنان اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً. يا للتحرير والإصلاح والديمقراطية!!!!
وللتدليل على أكذوبة الديمقراطية الموعودة لاحظنا كيف انهمرت الضغوط والصواريخ والابتزازات على الفلسطينيين لمجرد أنهم صدّقوا أسطورة الديمقراطية الأمريكية الموعودة، واختاروا ممثليهم على أساس ديمقراطي حر. وماذا كانت النتيجة: إنقاذ غزة وإصلاحها على طريقة الضابط الأمريكي آنف الذكر، لكن بأدوات إسرائيلية هذه المرة. تلك هي الطريقة الوحيدة لوضع الفلسطينيين على الصراط المستقيم، وتحريرهم، ودمقرطتهم!!!
مع كل ذلك ما زال بعض الواهمين السوريين يعلق آماله على العامل الأمريكي في الإصلاح والتغيير. ولو، لا سمح الله، تم تحرير سوريا وإصلاحها ودمقرطتها على الطريقة الأمريكية، فستكون النتيجة كالتالي: سيتم تقطيع أوصال الدولة السورية الحديثة التي قدم السوريون الغالي والرخيص من أجل بنائها، وتحويل البلاد إلى جماعات وشراذم متناحرة، تماماً كما أرادت وثيقة "كوفونيم" الإسرائيلية الشهيرة التي خططت لتفكيك سوريا ولبنان والعراق والسعودية ومصر وحتى السودان. هذا هو الإصلاح الأمريكي على الأرض. أما سياسياً، فسنشهد صعوداً مدوياً لملوك الطوائف، ولوردات العصابات السياسية، وتجار الحروب، ومتعهدي الاغتصاب، وانتهاك الأعراض، وصغار النفوس و"الرويبضة". ولا أعتقد أن معالم سوريا الحضارية من آثار عظيمة ومتاحف وقلاع وحصون ومساجد ستسلم من همجية التتار والمغول الجدد ومساعديهم المنحدرين من سلالة ابن العلقمي وأمثاله.
وكم أتمنى على الذين يسمسرون على مستقبل سوريا أن يتعلموا من تجربة الذين سمسروا على العراق من قبل، فأصبحوا مضرباً للأمثال في الخيانة والسقوط الأخلاقي والقيمي والوضاعة والنذالة، فلم يحصلوا على كلمة شكر واحدة من الشعب العراقي رغم تشدقهم بتحريره من الطغيان. وقد قال العراقيون كلمتهم في "العلاقمة" الجدد أثناء الانتخابات، إذ لم يحصل أحد دهاقنتهم على بضعة أصوات من أصل أصوات عشرين مليون عراقي. أليس من الجهل والغباء الشديدين أن يحاول بعض السوريين تكرار تجربة السماسرة العراقيين في سوريا؟ أليس من الأفضل للذين يتآمرون على بلدهم بحجة إصلاحه أن يتعظوا مما حل بنظرائهم العراقيين الذين لا يستطيعون الخروج لقضاء حاجاتهم خارج مما يسمى بـ"المنطقة الخضراء" والذين لن يتمكنوا من البقاء في العراق لحظة واحدة بعد انسحاب أسيادهم المحتلين؟ ألم يسمعوا بقصة الجندي الأجنبي الذي تحالف مع نابليون وحاول أن يصافحه ذات مرة ظناً منه أن القائد الفرنسي سيكافئه على خيانته لوطنه: فقال له حرفياً: "بإمكاني أن أعطيك بعض النقود، لكن يدي لا تصافح شخصاً خان وطنه وسمسر وقوّد عليه". متى يعي المتآمرون على أوطانهم أنهم، كمناديل الكلينكس، بالنسبة لأسيادهم، حيث يكونون في الجيب قريبين من القلب قبل الاستخدام، وفي سطل الزبالة بعد الاستخدام؟ لا أدري لماذا يحاول البعض أن يمارس القوادة السياسية بالرغم من أنه يعرف مصير القوادين عبر التاريخ؟
لا شك أن سوريا وغيرها تحتاج إلى الإصلاح والتطوير السريع، ولا ينكر ذلك سوى المكابرين، لكن ليس على الطريقة الأمريكية التي سيلعنها التاريخ. ولو كنت مكان الذين ما زالوا يتشبثون بالحل الأمريكي لنظرت حولي قليلاً، فلم يعد هناك إنسان بكامل عقله يتوسم خيراً بمشاريع التحرير والإصلاح والديمقراطية المزعومة، وكلما سمع عربي بتلك المصطلحات السياسية الممجوجة بصق عليها وعلى مروجيها ومتعاطيها، بعد أن أيقن أنها الاسم الكودي لتخريب البلدان العربية وتدميرها وشرذمتها وتفتيتها ونهبها وسلبها واستباحتها.