بقلم : نقولا ناصر* ... 17.08.2009
(*إذا كان العامل الخارجي في الأزمتين العراقية والفلسطينية سافر الوجه يتكلم بلغة إنكليزية أو عبرية فصيحة لا تخطئها الآذان العربية، فإنه في الأزمة اليمنية بالكاد يظهر)
لم يعد يمني أو غير يمنيي يجادل يأن اليمن في أزمة، وهي أزمة صناعة "وطنية" بامتياز، يساهم فيها الدولة ومعارضوها، والشافعية والزيدية وما أفرزته الأزمة من فروع "قاعدية" أو "حوتية" (يلفظها اليمنيون بحرف الثاء بدل التاء) لهما، والوحدويون الذين يستخدمون عصا الدولة الغليظة لدفع من همشتهم مركزيتها إلى البحث في الانفصال عن الخلاص من التهميش وتغول أهل الدولة، والانفصاليون الذين وجدوا في الأزمة فرصة يعتقدونها سانحة للانفصال، والعلمانيون الذين تبنوا شعارات الليبرالية الغربية في مجتمع محافظ ليزيدوا غربتهم عن هذا المجتمع، والإسلاميون الذين يسعون إلى فرض رؤيتهم بالقوة متناسين أن الله يهدي من يشاء ومتجاهلين الحكمة الإسلامية التي تحضهم على مجادلتهم بالتي هي أحسن، وأهل الحضر الذين يريدون إرساء حكم القبيلة في المدينة، وأهل القبيلة الذين يستفيدون من القشور الديموقراطية للمدينة لاحتوائها، و"الشماليون" و"الجنوبيون"، والجمهوريون الذين يكادوا ينزلقون إلى حكم القبيلة فالعشيرة والأسرة، والملكيون الذين يحاولون إعادة عقارب ساعة التاريخ إلى الوراء حنينا إلى عهد الإمامة وأمراء الإقطاع، والاشتراكيون الذين تغيب عن بعضهم حقيقة أن الوحدة هي الحاضنة الأمثل لأي اشتراكية يطمحون إليها، والرأسماليون الذين "يستثمرون" الأزمة لجني المزيد من الأرباح وتحقيق الإثراء السريع بينما البعد الاقتصادي للأزمة يطحن مواطنيهم حد أن لا يجدوا قوت يومهم فلا يعود أحد يلومهم لو خرجوا على الناس شاهرين سيوفهم، إلخ.
أنها أزمة شاملة تهدد بتشظي اليمن ليس إلى شمال وجنوب فحسب بل وإلى "دول صغيرة" يقتتل الإخوة اليمنيون فيها "من بيت إلى بيت ومن طاقة إلى طاقة"، كما حذر مؤخرا الرئيس اليمني علي عبد الله صالح نفسه، الذي يؤكد تحذيره إدراكه العميق لمخاطر الأزمة التي يحاول حتى الآن نزع فتيلها إما بحل أمني يزيد زيت عنفه نارها اشتعالا أو بدعوة متكررة إلى الحوار الوطني ليست مشفوعة بما يكفي من شروط نجاحها، لتظل الأزمة تتمدد شمالا وجنوبا، رأسيا وأفقيا، تمددا يضع البلد فوق برميل بارود قد ينفجر مرة واحدة ليهدد الأمن القومي بإغلاق أجنبي للبوابة الجنوبية لمشرقه العربي بعد إغلاق الاحتلال الأميركي لبوابته الشرقية في العراق والاحتلال الإسرائيلي لبوابته الغربية في فلسطين.
وإذا كان العامل الخارجي في الأزمتين العراقية والفلسطينية سافر الوجه يتكلم بلغة إنكليزية أو عبرية فصيحة لا تخطئها الآذان العربية، فإنه بالكاد يظهر في الأزمة اليمنية لولا الآثار المحلية للأزمة الاقتصادية العالمية ومثلها الأبعاد المحلية لما يسمى الحرب الأميركية العالمية على الإرهاب. ففي هذه الأزمة لم يجرؤ أي مراقب محايد حتى الآن على تحميل المسؤولية الأولى للتدخل الأجنبي الخارجي، فالأزمة اليمنية أشبه بالأزمة السودانية حيث العوامل الداخلية المسببة لها تطغى وتغطي على العوامل الخارجية الساعية إلى استثمار الأزمتين كما هو متوقع.
وبينما الأصوات اليمنية التي يمكن أن تحمل هذه المسؤولية للتدخل الإيراني مثلا في صعدة الشمالية خافتة لا تجد في التوجه الطائفي لما أفرزته الأزمة من تمرد "حوتي" متطرف في أوساط أقلية من حوالي مليون زيدي أدلة كافية لتحميل المسؤولية لطهران حتى عن هذا الجانب المحدود جغرافيا للأزمة، وهي أصوات على خفوتها ما زالت تفتقد صوت صنعاء الرسمية على كل حال، فإن العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية وبين اليمن لم تتطور نوعيا حد أن يتجرأ معارض سياسي يمني على مقارنتها بالعلاقات الأميركية مع الكثيرين في الجوار العربي شمالا وشرقا وغربا ليقول إن اليمن قد تحول فعلا إلى تابع يدور في الفلك الأميركي، بالرغم من إجراء أول مناورات عسكرية مشتركة عام 1998 قبل أن تنقل الولايات المتحدة مرافقها لتخزين الوقود من جيبوتي إلى عدن في العام التالي، وبالرغم من تطور علاقات اليمن الأمنية مع الولايات المتحدة وبخاصة منذ هجمات القاعدة على أهداف أميركية في الحادي عشر من أيلول / سبتمبر عام 2001. وفي هذا السياق كان الإفراج مؤخرا عن الشيخ محمد علي حسن المؤيد بعد ست سنوات في سجن أميركي اختطف إليه من ألمانيا بعد أن رفضت بلاده تسليمه، وكذلك استمرار المطالبة الأميركية لليمن بتسليم الشيخ عبد المجيد الزنداني ورفض صنعاء لتسليمه، مجرد مثالين على أن واشنطن ما زالت غير راضية عن مستوى التعاون اليمني معها في حربها على الإرهاب. كما أن العداء الشعبي لأميركا في اليمن هو لأسباب عربية وإسلامية أكثر منه لأسباب يمنية وربما يكون في الدول العربية المتحالفة والصديقة رسميا للولايات المتحدة أكثر منه في اليمن.
لا بل إنه يسجل للولايات المتحدة موقفها من قضية الوحدة اليمنية الذي كان إيجابيا وربما أفضل من مواقف عديد من الأشقاء العرب، بغض النظر عن مصلحتها في تصفية ما كانت تعتبره امتدادا لنفوذ الاتحاد السوفياتي السابق في "جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية" في الجنوب عندما اتفقت هذه مع "الجمهورية العربية اليمنية" على الوحدة في "الجمهورية اليمنية" التي أعلنت في الثاني والعشرين من أيار / مايو 1990، وعندما اندلعت الحرب الأهلية عام 1994 بعد أن أراد الجنوب الارتداد عن الوحدة وأعلن "جمهورية اليمن الديموقراطية" من جانب واحد لم تعترف الولايات المتحدة بها، وهي لم تحظ بأي اعتراف دولي آخر على كل حال.
وقد تطورت المضاعفات السلبية لانتصار الوحدة عسكريا في تلك الحرب الأهلية إلى عنوان رئيسي للأزمة الراهنة التي اتخذت مظهرين احدهما تهميش الخاسرين في تلك الحرب ومناطقهم من جهة وتغول حكومة المنتصرين في دولة الوحدة من جهة أخرى، وبخاصة بعد تعديل دستور الوحدة في السنة ذاتها وحل مجلس الرئاسة المؤلف حسب الدستور قبل تعديله مما قاد بدوره إلى ما تقول المعارضة الوحدوية والانفصالية على حد سواء إنه كان بداية لحكم فردي طويل الأمد يهدد بالتحول إلى حكم وراثي تتهمه حاليا باستبداد تستدل عليه أولا بالإفراط في استخدام القوة العسكرية ضد التعبير السلمي عن المعارضة السياسية مثل إرسال تعزيزات عسكرية بدل الشرطية تعطي للأقلية الانفصالية في "حراك" الجنوب وزنا أكبر من حجمها الحقيقي وتغطي على تظلم شعبي له مسوغاته الموضوعية هناك بمنح عنوان انفصالي زائف ومضلل له.
وتستدل عليه ثانيا بالإفراط في استخدام القوة العسكرية ضد التمرد المسلح للمعارضة حد استخدام الطيران الحربي والمدفعية الثقيلة اللذين لا يميزان بين المتمردين -- الذين أغلقوا منافذ البلاد الحدودية مع العربية السعودية في الشمال واستولوا على مؤسسات الدولة وصادروا ممتلكاتها وارهبوا من لم يؤيدهم من الأهالي -- وبين المدنيين كما يحدث في محافظة صعدة حاليا التي يقول المعارضون إن إخضاعها لحالة طوارئ وعزلها هاتفيا عن العالم وفرض حظر التجوال الليلي عليها يرقى إلى عقوبة جماعية.
وتستدل عليه ثالثا بالتضييق على الحريات العامة حد أن تنشر وزارة الدفاع فتوى تجيز "الجهاد" دفاعا عن الدولة، وحد أن تغمض هذه الدولة أعينها عن إصدار فتاوى سلفية تعتبر، على سبيل المثال، المعارضة للرئيس غير إسلامية وتكفر كل معارضة لا تتفق معه، وحد إغلاق صحف وحبس محرريها لمنع نشر أخبار ما يحدث أو للاحتجاج عليه، بعد أربع سنوات من قول السفير الأميركي في صنعاء ثوماس كراجسكي في أيلول / سبتمبر عام 2005 إن "مسلسل الديموقراطية في اليمن قد توقف".
اليمن في أزمة، بل في أزمات تبدو في الظاهر منفصلة عن بعضها لكنها متداخلة تداخلا يهدد في خلاصته ليس وجود الدولة اليمنية فقط بل ووجود اليمن كوحدة إقليمية، مما يقتضي مقاربة موحدة للحيلولة دون هذه الأزمة والانفلات من أي سيطرة عليها بحيث يتحول التهديد إلى خطر واقع ويكون الأوان عندئذ قد فات لتداركه، والمقاربة الموحدة تقتضي جهدا وطنيا موحدا، وهذا الجهد يتطلب حوار وطنيا، والحوار الوطني قد وصل إلى طريق مسدود كما يبدو، وفي هذه الحالة تنفتح الأزمة اليمنية على احتمالين، إما وساطة عربية لاحتوائها أو تدخل أجنبي يستغلها لكنه بالتأكيد لن يكون مدخلا إلى حلها بل يكاد يكون من المؤكد أنه سيفاقمها، لكن ما سبق من وساطة عربية قد تعامل مع الأزمة بفروعها لا في مجملها، وباعتبارها أزمات منفصلة عن بعضها لا باعتبارها أزمة وطنية واحدة تعبر عن نفسها بأشكال مختلفة، مثل الوساطة القطرية في صعدة.
غير أن أي وساطة عربية تتبنى مقاربة كهذه سوف تصطدم بكبرياء أو مكابرة "السيادة الوطنية" للدولة التي ترفض الاعتراف بوجود أزمة "وطنية" وبالتالي سترفض أي وساطة عربية فيها بهذا المفهوم لها، مما يضع بدوره أي وساطة كهذه أمام طريق مسدود أيضا، ليظل الاحتمال الوحيد المفتوح هو المزيد من التدهور المتسارع للأزمة، وهذه هي الوصفة المثلى لفتح أبواب اليمن مشرعة أمام التدخل الخارجي من كل حدب وصوب.
وقد لا يمضي وقت طويل قبل أن يقوم أحد أدعياء الحرص على الأمن والاستقرار الإقليمي، أو الحرص على أمن حرية الملاحة الدولية في مضيق باب المندب وخليج عدن، أو الحرص على التدخل الخارجي "لأسباب إنسانية" -- ووزير الخارجية الفرنسي كوشنير، على سبيل المثال، هو من أشهر المنظرين لمثل هذا النوع من المسوغات الإنسانية" للتدخل الأجنبي – ب"اقتراح" التدويل للأزمة المتفاقمة في اليمن.
ومن تجارب العراق وأفغانستان ويوغوسلافيا السابقة، سيعني التدويل فقط مصادرة السيادة الوطنية، وتأجيل أي أجندة وطنية حقا للحل إلى أجل غير مسمى، ثم البدء في البحث عن حلول "فدرالية" تقوم على أساس طائفي وعرقي وجهوي – قبلي تحافظ اسميا فقط على وحدة الأراضي الإقليمية للوطن اليمني وتقيم فيه حكومة "مركزية" شكلية بلا دولة مركزية بعد أن تهدم البنى التحتية لأي دولة كهذه فيه، دون أن ينهي التدويل الاصطراع "الوطني" بين أطراف الأزمة المختلفة، بل على العكس سيوفر التدويل أسبابا جديدة لتفاقمه، والمثال العراقي سابقة في الجوار ما زالت نازفة وفصولها مستمرة.
وربما تجد الدولة اليمنية الحالية في الهروب من التدويل إلى "الأمركة" مخرجا من مصير كهذا، ول"الأمركة" أنصارها اليمنيون الذين يجدون في الجوار العربي تأييدا لهم، لكن في أي سيناريو كهذا ستكون صنعاء مثل المستجير من الرمضاء بالنار كما يقول المثل العربي.
ولا ينقص التدويل أنصار يدعون له من أطراف الأزمة نفسها، مثل الرئيس اليمني الجنوبي السابق الذي أصبح نائبا لرئيس دولة الوحدة عام 1990 قبل أن يرتد إلى الانفصال بعد أربع سنوات بعد أن أثبت عجزه عن التصدي لصعوبات الوحدة التي كانت متوقعة، علي سالم البيض، قد وجد في الأزمة الراهنة فرصة سانحة ينتهزها للظهور على مسرح الأحداث، ليس لكي يعلن مسؤولية نفسه القصير عما آلت إليه الأوضاع واستعداده للمساءلة والمحاسبة عن دوره في ذلك بل ليزيد الطين بلة ويدعو علنا ودون تردد إلى التدخل الدولي في اليمن لدعم انفصال الجنوب معلنا أن وحدة اليمن قد "دفنت" عام 1994 إلى غير رجعة، ولحسن الحظ أنه لم يعد يمثل الحزب الاشتراكي اليمني الذي له برنامجه السياسي المعلن لاحتواء المضاعفات السلبية للوحدة والتغلب عليها بالمزيد من الوحدة .
أما طارق الفضلي، "المجاهد" السابق ضد السوفيات في أفغانستان الذي انقلب على تحالفه السابق مع الرئيس صالح في نيسان / أبريل الماضي لينضم إلى دعاة الانفصال في الجنوب، فقد أعلن، كمثال آخر، "حاجته إلى الغرب الآن" واعدا بان الجنوب "المستقل" سوف يعالج "الإرهاب" في اليمن ويحسن أمن الملاحة في خليج عدن "بالتعاون مع الغرب وبخاصة المملكة المتحدة" (بي بي سي 21/5/2009).
ولن يفوت المراقب ملاحظة أنه باسم محاربة "الإرهاب" و"القرصنة" يجري حاليا بالفعل تدويل المياه الإقليمية لليمن في سياق تدويل المداخل البحرية للخليج العربي والبحر الأحمر -- (حيث بدأت تصول وتجول مؤخرا السفن الحربية الإسرائيلية المبحرة عبر قناة السويس) -- في بحر العرب وخليج عدن حيث يصول ويجول الأسطول الخامس الأميركي.
فبذريعة منع وصول السلاح إلى قطاع غزة وافقت أوروبا على اتفاق أميركي – إسرائيلي بمراقبة هذه المداخل أولا، ثم بحجة محاربة القرصنة تدفقت السفن الحربية الدولية إلى هذه المداخل لحماية طرق الملاحة الدولية فيها ثانيا، وأضفى مجلس الأمن الدولي ثالثا شرعية الأمم المتحدة على هذه العربدة الدولية البحرية في المياه العربية بإصداره القرار 1816 في حزيران /يونيو، وهو القرار الذي دعا في مسودته الفرنسية – الأميركية إلى الوصاية الدولية على البحر الأحمر، ومن الذرائع التي سيقت لذلك أن اليمن الغارق في أزماته المتفاقمة لا يملك حتى حرس سواحل يكفي لحماية الملاحة في خليج عدن، لا بل إن ممثل الأمم المتحدة الخاص في الصومال أحمدو ولد عبد الله قد وصل، رابعا، إلى صنعاء في الرابع عشر من هذا الشهر لبحث تحول اليمن إلى مصدر رئيسي للسلاح الذي يغذي الحرب في الصومال، كما تقول التقارير الأميركية نفسها التي تزعم بأن اليمن قد تحول كذلك إلى مرتع للقاعدة.
وبالرغم من أزمته الوطنية أدرك اليمن الخطر المحدق فكان المبادر إلى اجتماعات عربية وإقليمية لبحث تغول التدويل على سيادة العرب في مياههم الإقليمية لكن أزمته الوطنية لا تبقي له وقتا أو طاقة إضافية لمتابعة مبادراته.
ولم يعد خافيا أن الاسترتيجية الإسرائيلية التي أنجزت أهدافها العسكرية في قناة السويس وخليج العقبة بالحرب عام 1956 وبالسلم مع مصر والأردن في عامي 1979 و 1994 تسعى إلى استكمال هذه الاستراتيجية جنوبا على امتداد البحر الأحمر الذي ما زال اليمن يسيطر على مداخله الجنوبية في خليج عدن وباب المندب، بينما الأزمة اليمنية تضيف إلى أعباء العرب أزمة عربية جديدة تشغلهم عن تدارك الخطر الجديد المحدق بأمنهم القومي من جنوب الوطن العربي.