بقلم : الخير شوار ... 06.08.2009
لم يكن الأمر في البداية يحتاج إلى أكثر من قرار اعتباطي، لكن المعاناة استمرت سنين عديدة في ظلام وصمت، وجاء الموت الذي كان أبطأ مما يتصوره البعض، واستسلم عماد لقدره المحتوم.
هكذا كان اسم الضحية، بل هذا هو اسمه الكامل، فهو عديم اللقب، لا بحكم علاقة غير شرعية لأبويه، وهو الذي لم يعرف أبوين من لحم ودم، ولم يكن يجهلهما فقط، بل لم يكن لهما وجود في الأصل. ولم يعرف له اسم إلا هذا الاسم، ولم يسأله أحد عن سر هذه الهوية الناقصة، لأنه لم يلتق أي شخص يمكن أن يسأله هذا السؤال، بل لم يلتق أي شخص طيلة تواجده الغريب قبل أن تنال منه الرطوبة وتأكله الصراصير والحشرات التافهة. وأما كيف جاء عماد إلى الوجود، فقد كان ذلك مجرد صدفة، صدفة غريبة جعلته يقضي في هذا الوجود بعض السنين قبل أن يستسلم لمصيره المحتوم في ذلك الصمت الرهيب.
ولم يكن ميلاد عماد، إن جاز أن نسميه ميلادا ليتم، لولا أن السياق العام اقتضى ذلك، فقد كان الأمر كله مبنيا على شخصية محورية هي عمار المحشاش، تلك الشخصية الغريبة التي راهن عليها السارد في بناء رواية غريبة ومتشابكة الأحداث. وكان صاحبها يعتقد بأنها سترفعه إلى مصاف الكتاب الكبار. وكان عمار المحشاش هذا محور كل الأحداث والشخصيات الثانوية الأخرى تدور في فلكه، وحدث فجأة ما لم يكن الكاتب نفسه يتوقعه، فلما بلغ السارد الصفحة الواحدة والأربعين وجد نفسه مضطرا لإدخال شخصية روائية جديدة، قد تتطور بعد ذلك وقد تضمحل وتتلاشى، والأمر كله كان مبنيا على لعبة السرد التي لا ترحم في كل الأحوال، وشخصية عماد تمثل ذلك الشخص الغريب بائع فستق العبيد (الكاوكاو) الذي يرمق عمار المحشاش بنظرات غريبة في كل مرة يراه فيها، ويجعله يرتاب من نفسه، وتتأزم حالته أكثر ويدور خياله حول الكثير من الأوهام والتخيلات.
دون أن يفكر الكاتب طويلا، سرح بخياله بعض الشيء، وتخيل أحد المارة وهو ينادي صاحب فستق العبيد ذلك باسم "عماد" بدون أي لقب أو كنية إضافية، مثلما تعود الكاتب مع شخصيات الأخرى الأكثر تركيبا والمنحوتة من أسماء تعبق بالمحلية والشعبوية. وهكذا جاء هذا الشخص الغريب إلى تلك البؤرة السردية التي لم تكن في صالحه منذ البداية، وشاءت أقدار تلك المساحة السردية ألا تتطور شخصية عماد كثيرا، فقد تكرر في مرات قليلة جدا، مرة واحدة في الصفحة 101 وأخرى في الصفحة 129 ومرتان في الصفحة 192، ثم خرج من السرد أو ذاب فيه أو نسيه السارد أو لفظه وتوقف بدون سابق إنذار عن النمو وكأنه أدخل ثلاجة كبيرة عطّلته بالكامل وبشكل مفاجئ.
ولما انتهى السرد وطويت تلك الصفحات المكتوبة بالقلم الجاف على الورق الرديء من نوع البيفتاك، كان السارد الذي تحول بعد ذلك إلى كاتب، يأمل في أن تتحول تلك الخطوط المتعرجة بالقلم الجاف إلى إشارات ضوئية للكومبيوتر، ولم يكن يفهم في تلك التكنولوجيا، حتى يتمكن بعدها من أن يرسل روايته إلى مسابقة معروفة قد تنال حظها من النجاح، أو إلى ناشر ذوّاقة يكتشف عبقريتها، ثم يطبعها على حسابه الخاص، ويقوم بدعاية لها بعد ذلك، تجعل النص يولد باستمرار من قارئ إلى آخر. لكن كل ذلك لم يحدث، وبقي ذلك النص الروائي بشخصية عماد، والشخصيات الأخرى وأهمها عمار المحشاش بكل غرابة أطواره وهوسه المبالغ فيه، تقاوم الغبار والرطوبة في أوراق البيفاك تلك سنة بعد أخرى. وقيل بأن صاحبها غادر الحياة نتيجة لحادث مؤلم وقيل بأنه هجر الكتابة بعد يأسه من النجاح، وبدأ ذلك النص الروائي يموت شيئا فشيئا في صمت وببطء شديد ويستسلم لغبار النسيان الذي سلمه ببطء شديد إلى الرطوبة والصراصير، ومع الأيام تمكنت تلك الرطوبة والحشرات التافهة من القضاء على أوراق البيفتاك الرديئة تلك، وكانت الشخصيات التي تحتويها تلك الأوراق تحتضر بطريقة مؤلمة. وشيئا فشيا قضى عماد والصفحات القليلة التي كانت تحتويه دون أي مقاومة تذكر، قبل أن يستسلم زميله عمار المحشاش الذي ظل عنيدا كما رسمه صاحبه، فقد كان متواجدا في بقية الصفحات التي أخذت سنوات أخرى قبل أن تتحول في النهاية إلى عدم.