بقلم : بيروت حمود ... 07.08.2009
شفافية النافذة هي غيمة الصدفة المرتحلة فوق وحل الثبات، تمامًا كما يبني الفجر عشه في حضن صخرة ثم يهجرها في ساعة الزنبق.
هي مراقبة طويلة لموكب الأمواج المتراقص على خاصرة الشاطئ، فللتكرار وحده شرعية احتلال من تهدلت عليه نعمة النسيان خصلة كرز.
كنت لأحسد هؤلاء الذين يجرون ذاكرتهم على كرسي المقعدين لولا أن مشهده، وهو يقطع شارع عكا - صفد عرضًا ليصل إلى "ذيل المسيد"، أثبت لي أن الذين تثقل الذاكرة على أرواحهم كعضو بُتر للتو هم وحدهم من يعانون من مرض النسيان.
عَبَر "مفترق الموت" غربًا دون أن يعير المركبات أدنى اهتمام، وهناك حيث تفرش السكينة بساطًا من القلق تحت الخروبة الوحيدة في أُسرة الزيتون وقف يصرخ: ((ابن عاهرة من باع "رباع المل ")).
ساعة الضغط عند أمينة عندما يترك زوجها البيتَ قاصدًا تلك البقعة في الجنوب الغربي للقرية. وحدها أمينة كانت تدرك أين يتواجد زوجها عندما يقتله النسيان، لكنها أبدًا لم تقتنع يومًا أن "رباع المل" كانت ملكًا لفلاح أضناه الفقر كوالده.
على الرغم من أنه يعاني من ألف علة في زمن كله علل، إلا أنه كان من الغريب بالنسبة إليه أن يجد نفسه على سرير، ربما يكون آخر سرير ينام عليه في حياته كلها، في مستشفى "رمبام".
- ألم تجدي يا أمينة في عمان كلها فندقًا أفضل من هذا الفندق؟!..
لم تضحك أمينة كالعادة، ولم تهيئ نفسها لحديثه القادم حول تطبيع "الفندق" مع إسرائيل، واستخدامه أغطية مليئة بالنجوم السداسية. كذلك لم ترهق نفسها في أن تشرح له عن أمراضه المتعددة التي كانت سببًا لدخوله "الفندق" -مستشفى "رمبام".
- هذا غذاء هذا؟!! أرز وشرشبيل - شنيتسل لا أعرف ماذا يدعونه، أنت تعرفين كم أكره طعام الإنجليز، الله يسامحك يا أمينه تحضرينا هكذا لفندق يطبع حتى في الأطعمة؟!!.. آه كم أشتهى حبة زيتون أبيض من "رباع المل"!.
أمينة لم تجب، لم تضحك كذلك لم تتحرك. أمينة اغتالها هدوء قلب كائن آخر في الغرفة غيرهما، تعلقت عيناها بشاشة جهاز قياس دقات القلب المتصل بقلب عجوز يهودي راقد قرب زوجها. تخيلت لو أن الشاشة كانت شاشة التلفاز الذي تشاهد عليه كل مساء الأفلام المصرية لكتب عليها بخط القدر: النهاية.
كانت أطرافه قد ازرقت وتقوضت، عيناه غرقت في عتمة أبدية، فمه هو الشيء الوحيد الذي أتلف المشهد بانفتاحه على وسع الكون. كانت قد قررت أن تتخلى عن إنسانيتها إزاء الذين لم يسألوا عن الإنسانية عندما هجروا أهلها إلى لبنان، وتسببوا في أن تعيش مع أسرة لا تعرفها.. كانت قد نجت ربما بفضل العمالة أو الصدفة أو أي شيء آخر في النزوح من شَعَب إلى مجد الكروم.
بكت أمينة إلى حد الاختناق، تذكرت أنها ستموت وحيدة، وأن شرطيًا إسرائيليًا سيوقع على شهادة وفاتها، وتمشي قرية من الغريبين خلف نعشها تموء باستعارات التعزية وتكبير الله، وفي مخيم الميه وميّه عائلتها التي لم يتبق منها سوى أخوين سيصلها خبر الوفاة بعد أن يكون جثمان أمينة قد توارى تحت التراب.
وكيف تموت أمينة؟! أمينة لا تموت كهذا الغريب اليهودي. لن أقول إنها حية في ذاكرتي - هذا كذب، يكفي ما كذبته حتى اليوم. مخزون ذاكرتي أصلاً إذا ما قارنّاه مع الشيء الصغير المدعو بالـ"يو.إس.بي" لوجدنا أن الـ"يو.إس.بي" يتسع لخزن مواد أكثر من ذاكرتي المهترئة. لنقل فقط أن أمينة شيء غير مفهوم يشبه في تركيبته المعقدة قصة "البين بين".
وماذا في شارع عكا - صفد؟:
اعتقال تعسفي تحت رحمة عدسته الكاميرا والمسافات إذ تحترق البيوت على سفح التلة في منطقة "ذيل المسيد"، وتنهال أدعية العجائز وحفنات الأرز على جمهور الحجارة، ويتدافع الشبان للاشتباك مع قوات الشرطة الخاصة...
ليس من أجل مشروع سكة القطار، وإنما كانت عائلة تأخذ ثأرها من أخرى.. هكذا يستردون الدم بالدم مستخدمين مظاهر الانتفاضة..
تركض أمينة خلف زوجها رافعة ساعد الفكرة إلى ملاذ الحلم، لكن الرصاص لا يعبأ بأحد ولا يرحم رأسها...هكذا تموت... بزلة رشاش.
وهو... مستمر في الركض والصراخ: ابن عاهرة من باع رباع المل.. ابن عاهرة من باع رباع المل