بقلم : الخير شوار ... 13.08.2009
عندما تكلم الناقد الشهير فيصل درّاج عن لقائه الأخير بمحمود درويش، قبيل وفاته، ولم يكن يتصور أن ذلك هو اللقاء الأخير، ختم يقول: ''أوصلنا محمود إلى المصعد، تواعدنا على لقاء قريب أكيد، رفع يده مودعا، وغطّت وجهه ابتسامة أقرب إلى السؤال".
لم يكن محمود درويش بعد تطليقه السياسة عند منعطف أوسلو الشهير إلا شاعر السؤال والحيرة، الذي فك الارتباط بشكل نهائي مع شاعر الثورة الفلسطينية الذي التزم قبل ذلك بقضية بلاده المركزية، وعاش مشرّدا تتقاذفه البلدان وبلغ يقينه الثوري مداه عندما حرر إعلان قيام دولة فلسطين في الجزائر سنة 1988 وسلّمه صديقه أبو عمار ياسر عرفات الذي قرأه بطريقته الخاصة، وكأنه بصدد قراءة قصيدة درويشية حماسية. من مفارقات تجربة محمود درويش التي امتزج فيها الشعر بالسياسة، فكان يكتب البيانات السياسية تشبه القصائد، ويكتب القصائد التي تُسائل السياسي دون السقوط في الابتذال، أنه طلّق العمل التنظيمي باستقالته المعلنة والنهائية من منظمة التحرير الفلسطينية التي كان عضو لجنتها التنفيذية، يوما واحدا بعد إعلان اتفاق أوسلو الذي جاء ثمرة اتصالات سرية بين القيادة الفلسطينية والسلطة الإسرائيلية، لكن ذلك الطلاق البائن قذف به إلى معسكر السلام أكثر، وعاد إلى أراضي 48 ولو بشكل مؤقت وأقام في الضفة الغربية. وعند إعلان حاسديه من شعراء الدرجة الثانية موته الشعري، بموت القضية التي حملها على عاتقه طويلا، من أرض ميلاده بالجليل، إلى المنفى الأول الذي انتهى بعودة مؤقتة سنة 1994 دون أن يجد ملامح قريته التي تغيّرت جذريا، إلى منافي أخرى، ابتداء من سنة 1972 فابن الجليل الذي كان شاهدا على موت عصافيرها، ورافقته ريتا والبندقية في حلّه وترحاله، أضاع كل تلك المعالم عند منعطف أوسلو رغم براءته منه، ومات اليقين في داخله، عندما وجد نهاية غير متوقعة لذلك المسار الطويل، فدولة فلسطين التي كتب إعلان استقلالها (النظري) في الجزائر سنة 1988 لم يكن يتصوّر بأن الطريق إليها يمر بأقصى شمال الكرة الأرضية حيث صقيع أوسلو. ومع نزول طائرة أبي عمار على غزة الجديد حينها، واستعداده لبناء سلطة فلسطينية انتقالية تمهيدا لـصلاته في القدس كما كان يأمل، وبناء فلسطين التي سكنته قبل أن يسكنها، كان صديقه درويش بصدد بناء دولة أخرى وهي دولة تجربة شعر إنسانية على أنقاض التجربة الأولى التي سبقت أوسلو، ولم يمرّ وقت طويلٌ حتى جاءت مجموعة ''لماذا تركت الحصان وحيدا'' سنة 1995 معلنة ميلاد درويش جديد، من طينة الشعراء الإنسانيين الكبار الذين تجاوزا أحقاد التاريخ ومتاريس الجغرافيا، ولم يكن الطريق محفوفا بالورود، وكاد قلبه يتوقف أكثر من مرة، واعتقد بأن النهاية اقتربت فرثى نفسه في جداريته الشهيرة، لكن القلب المُتعَب أمهله مدة أخرى وتعددت تجارب شاعر السؤال الذي وُلد من رحم شاعر اليقين الثوري، وانتهى جدله مع قلبه يوم التاسع من الشهر الثامن لسنة 2008 خاتما مسيرته بسؤال كبير وزهرة النرد ترتسم أمام عينه، فتعطّلت لغة الاحتمالات وغاب الأمل الرياضي لحظة احتضار الشاعر هناك في العالم الجديد الذي عبّره كريستوف كولومب ذات يوم بحيرة تشبه حيرة درويش في سفره الأخير.