بقلم : توفيق أبو شومر ... 22.08.2009
نعم لقد اشتعل ضوء الخطر الأحمر الذي يرصد أمراض أطفال فلسطين وفتيانها منذ زمن، ونحن نواصل غض الطرف عنه، لاستهانتنا به ، ظنا منا بأننا قادرون على علاج أمراضهم ، وإعادة تأهيلهم للحياة .
قلت يوما:
أبناؤنا سينفجرون في وجوهنا كما تنفجر القنابل.
وكتبت يوما في كتابي" التخريب المنظم للتعليم" شعارا:
إن الأوقات التي يقضيها كثيرٌ من الآباء في تشذيب شواربهم هي أطول بكثير مما يقضونه في تهذيب أبنائهم !
فما أكثر الأضواء الحمراء التي يراها الفلسطينيون كل يوم في شوارعهم من ممارسات الأطفال والشباب الفلسطينيين المصابين بالقهر والعجز، والذين عدموا العلاج في مدارسهم وشوارعهم وبيوتهم.
توقفتُ عند حادثة أطفالنا الأخيرة في بيت لحم الذين خرجوا عن طورهم ، أو بعبارة أكثر دقة؛ أخرجتهم ظروفهم وواقعهم عن طورهم ، فقرروا أن يعاقبوا مجتمعهم على إهماله في حقهم ، وتقصيره في منحهم جرعات التربية والتعليم الملائم لسنوات عمرهم، فقرر خمسة منهم أن ينتحلوا صفات الجنود الإسرائيليين ، فلبسوا لباسهم وتمنطقوا بأسلحتهم فرضوا على أهل قريتهم حظر التجول ، والقرية هي (ظهر الثور) بجوار مستوطنة تقوع الإسرائيلية في محافظة بيت لحم ، ولم يكتفوا بذلك بل فتشوا بعض البيوت وعبثوا بمحتوياتها ، وضربوا سكانها قبل أيام في 25/7/2009 .
وضع كثيرون هذه ظاهرة ضمن إطار العنف العالمي فهي تشبه الظواهر الكثيرة المنتشرة في كل بقاع الأرض، حتى أن بعضهم قال:
قل الحمد لله، لأننا حتى اليوم لم نشهد أية محاولة لقتل الطلاب والمدرسين على يد الأبناء كما حدث في مدارس أمريكا، فما نزال بخير !
وكان هذا التعليق ، كغيره من التعليقات السلبية التي تبعث الراحة والاطمئنان الزائف في النفوس ، الاطمئنان الذي يدعو إلى الاستكانة وعدم البحث بجدية عن حلول لما يعانيه أبناؤنا .
إن الحادثة السابقة هي حادثة خطيرة، وهناك حوادث أخرى لا تقل خطرا عنها ، فهناك عصابات من الأطفال تدمن شرب المنشطات والمخدرات، وتدمن توزيع الرسائل على الهواتف المحمولة ، وتدمن السرقة والاحتيال والتسول .
لا شك في أن الأطفال الفلسطينيين تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب والعنف من قبل الاحتلال الإسرائيلي ، الذي واظب على خطته في جعلهم هدفا لمؤامرته ليحقق حلمه في استحالة تكوين جيل فلسطيني صحيح قوي قادر على منافسة إسرائيل ، وتمكن الاحتلال بتخطيط من زرع أمراض كثيرة في الوسط الفلسطيني.
والاحتلال هو الوحيد الذي كان يعتقل القاصرين ويسجنهم فترات طويلة ويبتزهم ويجندهم على الرغم من أن أفعاله هذه تعتبر جرائم في حق الأطفال ولعل أبشع أنواع الأمراض التي حُقنت في أجساد أبنائنا الفلسطينيين ، هو مرض الاستشفاء ، أو مرض الانتقامية، إذ أن المظلوم غير القادر على رد الإهانة على المعتدي القوي العنيف ، يعمد إلى التنفيس عن ألمه بظلم ذوي القربى الضعفاء.
وكان مفروضا أن يقوم التربيون الفلسطينيون بدراسة ظواهر العنف عند الطلاب الفلسطينيين ، وكان مفروضا أن تتولى كليات علم النفس الاجتماعي في الجامعات الفلسطينية دراسة الأمراض المستوطنة في المجتمع الفلسطيني ، بحيث تكون الغاية هي إشفاء أبنائنا من الأمراض الاحتلالية المغروسة في أوساطنا.
لكن المجتمع الفلسطيني شغلته أحزابه السياسية عن كل شيء، حتى أن كثيرا من الأحزاب أسهمت في تعزيز أمراض الاحتلال، فاستغلت بعض الأحزاب طفولتهم وحاجتهم وفقرهم لتجعلهم خدما لمبادئها الحزبية، وشحنتهم بالكره للأحزاب المنافسة ومنحتهم من الوسائل ما يُعزز مرض الاستشفاء ، فتحولوا إلى جلادين.
فأصبح بعضهم يمارس تعذيب المنافسين على الطريقة الإسرائيلية، مثل طريقة الشبح والتعليق والعزل التي تعرض لها في السجون الإسرائيلية، وأسست بعض الأحزاب دورات لتدريب الأبناء على كيفية ممارسة التعذيب على الأقارب والأصدقاء من المنافسين، ولم يعد مهما أن ينتهي التعذيب بالموت، لأن التحقيق في السجون العربية سوف يُثبتُ براءة الجلاد من دم ضحيته، فالموت دائما يكون في مثل تلك الحالات بسبب مرض خطير كان كامنا في جسد المقتول !
وتتخلص أسرٌ فقيرةٌ عديدة من أبنائها ببيعهم إلى الأحزاب حتى يحموها من المنافسين، فترى بعض الآباء يرغمون أبناءهم القاصرين على الالتحاق بحزب من الأحزاب ليكون عونا لهم عضليا وماليا، ليبرزوا صور الآباء أمام الآخرين حين يصبح ابنٌ من أبنائهم مسؤولا كبيرا ، فيتحول الأب إلى شيخ ومختار يقصده المحتاجون !
ويعاون التجارُ والمستوردون رجالَ الأحزاب وبعض الآباء الفلسطينيين في مهمتهم الخطيرة ، وهي القضاء على الجيل الفلسطيني الشاب حين يستوردون في مواسم الأعياد ألعاب العنف كالبنادق والقنابل وأدوات الجنود ، أو (المجموعة الكاملة) للجنود والتي تتكون من " سلاح حربي وسكين حاد وقيد لليدين وعصا كهربية.
أما أكثر أنواع التجارة ربحا في مواسم الأعياد في فلسطين فهي تجارة المواد المتفجرة والمفرقعات بمختلف أشكالها وألوانها ، وأكثر الأزياء شعبية عند الأطفال الفلسطينيين هي أزياء الجنود والرتب العسكرية.
قال لي أحد التجار ممن قرروا ألا يستوردوا الألعاب النارية في أحد المواسم متأثرا بمقالٍ كتبتُه منذ زمن :
" ما تزال الألعاب التعليمية وألعاب الذكاء والعقل _ التي طالبتنا باستيرادها بدلا من أدوات الحرب _ ملقاة فوق رفوف متجري منذ سنوات، على الرغم من أنني أعلنت عن بيعها بأقل من سعر الشراء سامحك الله "!
ومن مضاعفات وأعراض إهمالنا إشفاء أبنائنا من أمراضهم ، أنَّ خططنا المستقبلية ستكتب على الورق فقط، ولن نتمكن من تحقيق أي بند فيها، فكل شجرة تُزرع في وطني – مثلا- تحتاج إلى سياج حديدي قوي يلفها ليمنع عنها أيدي العابثين ، وحارس يمنع عنها من ينزعون السياج، هذا بالإضافة إلى حاجتها للعمال الذين يسقونها ويشذبونها، فزراعة الأشجار في شوارعنا وحدائقنا هي أكثر الزراعات تكلفة في العالم كله، وتلك جزئية بسيطة تشير إلى صعوبة بناء أي صرحٍ من صروحنا ، لأن بناء الأجيال سابقٌ على اقتراح الخطط ، وكل ذلك بسبب إهمالنا لتربية أبنائنا، وتنشئتهم على حب الحياة والعمل المنتج وخدمة الوطن وبناء الأمل وتربيته في نفوسهم مع وضع البرامج لاستنفاد طاقاتهم السالبة.
أبناؤنا وأبناؤكم يحتاجون إلى برامج تعليمية جديدة تخاطب عقولهم، وتفتِّح مداركهم، لا برامج تحشو عقولهم بمحفوظات فارغة تافهة المضامين .
أبناؤكم وأبناؤنا يحتاجون إلى إشراكهم في كل مفاصل الحياة ، بحيث يشعرون بأن وطنهم يحتاجهم، كبديل عن إحساسهم في معظم بلاد العرب بأنهم أعباءٌ على الآباء ، وأعباء على المجتمعات، وهم كمٌّ عدديٌ زائد عن الحاجة.
أبناؤنا محتاجون إلى برامج ترفيه تعمل كمانعات الصواعق تخفف من عقدة الاستشفاء ومن مرض الانتقامية، فقد أثبتت البرامج الفنية بمختلف أشكالها وأنواعها بأنها العلاج الفعال لكل الأمراض النفسية التي تصيب الأبناء.