أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
البعيد...

بقلم : بيروت حمّود  ... 22.08.2009

البعيد، اسم تحمله ورود ولدت في حوض خاطري منذ ربيع الاكتشاف: لما أجبتها بهزة رأس أوضحت من خلالها أنني أعاني من الضبابية عندما أتكئ على عيناي لرؤية البعيد، لكنني سرعان ما تذكرت جدتي، فدفعتني الإنسانية لأتقدم للأثيوبيين اللذين جلسا على بعد مقعد مني وفكرة لأسألهما بالعبرية "ما هو الرقم الظاهر على الشاشة"، إلا أنني حصلت على كلمات بالأثيوبية توحي أنهما لم يفهما ما جاء في سؤالي، والأخرى نظرة طبيعية إلى صدي المكتنز، الذي كان أكثر من نصفه يرعى خارج حدود القميص.
أردت اختزال بقية العناء فتوجهت بنفسي إلى الشاشة قاطعةً شوطًا من الشتائم لأتعرف على هوية الرقم: "237" – إنه رقمكِ، ينادونكِ.. أسرعي، هل تريدين المساعدة ؟..
عندما يتسع قلب الواحد منا لأكثر من وطن فإنه لا وطن سيتسع له.
تجاعيدها، عيناها الغائرتان، أوداجها الغارقة بنحول العنق، وقامتها الضئيلة المتراخية كلها تؤكد أن جسدها سكن هذا المكان قبلي، إلا أن شيئًا ما روسي ُ ما زال يحتل تفاصيلها منذ سبعين عامًا وأكثر.
تساءلت فيما لو فقدت هذا العجوز اليهودية –الروسية الأصل، أحد أبنائها في حرب الأيام الستة، حصار بيروت أو حملة الرصاص المسكوب على غزة، هل يمنحها ذلك شرعية في هذه الأرض أكثر مني؟!.
دائمًا بمروري بالأزقة المبلطة وخان العمدان في عكا القديمة، أو بمحاكاتي للأفق عبر شاطئ الكر مل، أو حتى عندما كنت ورفاقي نزف الوطن بضرب الكؤوس لما تبقى من عذرية يافا، دائمًا كنت أعود إلى البيت بعدها محملة بأكوام الخيبة ومرارة الألم. لأن العدو دومًا يتربص لجمالية معنى الأشياء، كما القافية الموحدة في حدود القصيدة.
بين السفر على متن قطار أو على متن طائرة اختلاف في حمل الراكب للوطن أو الوطن للراكب. في حالتي ابتعدت عن السؤال عن الحامل والمحمول، أردت فقط أن أميز الجندي العائد إلى بلاده من المدني المسافر لقضاء العطلة، ففي طائرة السفر وحدها يخلع جند الاحتلال بزاتهم العسكرية ليعودوا بعدها إلى أوطانهم "مجردين" من دماء الصغار – لكنهم أبدًا لن يدركوا يومًا أنهم لا يختلفون في أرض المعركة عن المرتزقة، وفي العودة إلى بلادهم عن السُيّاح.
منذ لم يفهم اليهود – الأثيوبيين في أصلهما، سؤالي، قررت أن أعتزل كنس غبار أقدامهم عن زعتر تلالنا، يستطيعون اغتصاب بلادنا كما شاءت غرائزهم، ليحولوا كنائس يافا ومساجدها إلى خمارات وبيوت دعارة، ليبولوا على جدران عكا القديمة، ليحلوا جديلة حيفا ويعروا القدس من عروبة عينيها، لكنهم أبدًا لن يطالوا البعيد.
البعيد... سماء بلادنا التي تتثاءب كل صباح في أصيص الحبق الذي يزين شرفة الكون..