بقلم : نقولا ناصر* ... 28.09.2009
(*الأمن القومي العربي هو المستفيد من "الانقلاب الاستراتيجي" التاريخي في علاقات دول الجوار الإقليمي غير العربية مع طرفي الصراع العربي الإسرائيلي)
بينما ترتفع الأسوار الحدودية بين دول جامعة الدول العربية، سواء كانت أسوار فاصلة حقيقية أم أسوار أمنية تغلق الحدود بينها حقا كما هي الحال المستمر منذ سنوات بين المغرب وبين الجزائر أو تجعل المرور عبرها بالتأشيرة مثل الدخول من خرم الإبرة، تتنامى في المقابل ظاهرة في الاتجاه المعاكس بين دول عربية وبين دول الجوار الإقليمي، لتمحي العلامات الحدودية بين السيادتين الإيرانية والعراقية على سبيل المثال، وتلغى تأشيرات الدخول بين سوريا وبين تركيا، وبين الأردن وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي كمثال آخر. وبينما قادت معاهدات الصلح واتفاقيات وتفاهمات "السلام" بين بعض هذه الدول وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي وكذلك العلاقات الاستراتيجية التي تتوثق بين بعضها وبين دولة الاحتلال الأميركي في العراق إلى انهيار الحد الأدنى من التضامن العربي، تنمو في المقابل ظاهرة الشراكة الاستراتيجية بين سوريا من جهة وبين دولتين إقليميتين محوريتين مثل إيران وتركيا أو بين دول المغرب العربي وبين أوروبا مجتمعة أو منفردة. فإذا لم تكن هذه بوادر منظومة إقليمية ل"شرق أوسط" كبير أو جديد تحل تدريجيا محل منظومة جامعة الدول العربية فإن على الاستراتيجيين العرب أن يقدموا تفسيرا مغايرا يوضح ماذا تكون.
لكن أيا كان التفسير فإن الحقيقة التي لا يمكن الاختلاف حولها هي أن فشل جامعة الدول العربية وانهيار الحد الأدنى من التضامن العربي، ناهيك عن هزيمة المشروع الوحدوي العربي، قد دفعت الدولة القطرية العربية إلى البحث عن أسباب البقاء في تحالفات دولية أو إقليمية أو كليهما معا من المؤكد أنها سوف تزيد الفرقة العربية وتحول أي أمل في التضامن القومي العربي إلى سراب في المدى المنظور بينما ترسي في الوقت نفسه أسسا موضوعية لنظام إقليمي غير عربي يمهد لشرق أوسط كبير أو جديد سواء وفق الرؤية الأميركية – الإسرائيلية المعلنة أو وفق رؤية إقليمية مستقلة كما يأمل الشركاء الجدد في دمشق وطهران وأنقرة، فالطبيعة كما يقول العلماء لا تحب الفراغ، ولا بد أن تملأ إحدى الرؤيتين الفراغ الناجم عن فشل المشروع القومي العربي حد الانهيار.
والحقيقة الثانية التي لا يمكن الاختلاف حولها هي أن الصراع العربي الإسرائيلي كان وما يزال هو الإطار العام لكلتا الرؤيتين، إذ بقدر ما يكمن هذا الصراع في أساس السعي الأميركي – الإسرائيلي إلى منظومة إقليمية في الشرق الأوسط تكون قادرة عل استيعاب دولة الاحتلال الإسرائيلي كجزء لا يتجزأ من المنطقة، كون جامعة الدول العربية بحكم تكوينها وأهداف إنشائها هي منظومة لافظة لا مستوعبة لهذه الدولة، بقدر ما يكمن هذا الصراع أيضا في أساس المسعى السوري إلى منظومة إقليمية تمنع الهيمنة الأميركية – الإسرائيلية على المنطقة من جهة وتعزز من جهة أخرى إمكانيات سوريا الدفاعية في مواجهة دولة الاحتلال الإسرائيلي، كون سوريا هي الدولة العربية الوحيدة التي ما زالت في حالة حرب فعلية مع هذه الدولة، وتعوض كذلك عن فقدان عمقها الاستراتيجي العراقي بعد الاحتلال الأميركي للعراق.
لكن سوريا في بحثها إقليميا عن الخلاص القطري، بعد أن فقدت الأمل في أي ظهير عربي، قد حققت اختراقا استراتيجيا قوميا لا نقاش فيه، وربما ضارة نافعة كما يقول المثل العربي، فيأسها من التضامن العربي مع كفاحها من أجل تحرير أراضيها المحتلة الذي دفعها إلى البحث عن بديل إقليمي لهذا التضامن قاد عمليا إلى حرمان دولة الاحتلال الإسرائيلي من رصيد استراتيجي كانت منذ إنشائها تستثمره في صراعها لفرض وجودها على العرب والمنطقة، إذ طالما راهنت على استثمار الخلافات العربية مع دول الجوار الإقليمي غير العربية في تركيا وإيران وأثيوبيا بخاصة لحرمان العرب من عمقهم الاستراتيجي الإقليمي، لا بل إنها وراعيها الأميركي قد استثمرا هذه الخلافات فعلا في محاولات حثيثة لتفجير نزاعات حدودية موروثة من عهود الاستعمار الأوروبي تصرف الأنظار بعيدا عن الصراع العربي – الإسرائيلي الإقليمي الأساسي وتحظى بالأولوية عليه لتكون بديلا له – كما تجري حاليا محاولة استبدال العدو الإسرائيلي للعرب بعدو إيراني لهم بذرائع شتى -- ولكي تتحول دول الجوار هذه عن تحالفها الجيوسياسي الطبيعي مع جيرانها العرب إلى التحالف مع دولة الاحتلال الإسرائيلي ضدهم، وما زالت تحالفاتها مع إيران الشاه قبل الثورة الإسلامية ومع تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي "الناتو" وأثيوبيا الإمبراطور هيلاسيلاسي إبان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية وبين الاتحاد السوفياتي السابق تاريخا قريبا لم يغب بعد عن الذاكرة العربية.
ولا جدال الآن في أن الأمن القومي العربي هو المستفيد من هذا "الانقلاب الاستراتيجي"، التاريخي بكل المقاييس، في علاقات دول الجوار الإقليمي غير العربية مع طرفي الصراع العربي الإسرائيلي، ولا جدال أيضا في أن الدبلوماسية السورية الناجحة لها فضل رئيسي في المساهمة في حدوث هذا الانقلاب، الذي لا يمكن طبعا إغفال المستجدات الدولية والإقليمية والعوامل الداخلية التي دفعت دول الجوار نفسها في هذا الاتجاه، دون إغفال المساهمات المصرية واليمنية والإماراتية، على سبيل المثال، التي حرصت على احتواء خلافاتها مع دولتي الجوار الإقليمي في أثيوبيا وإيران لكي تظل العلاقات "طبيعية" مع الدولتين بالرغم من إثارة قضية توزيع مياه نهر النيل بين دول المنبع والمجرى والمصب، والصاعق الصومالي لتفجير صراع في القرن الإفريقي يئد هذا الانقلاب الاستراتيجي في مهده، والإصرار الإيراني على الاستمرار في احتلال الجزر الإماراتية الثلاث، وغير ذلك من الهموم العربية المشروعة التي يحاول الحليفان الأميركي والإسرائيلي تسعير الخلاف حولها بين دول عربية وبين هاتين الدولتين في الجوار الإقليمي عملا بالاستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية التقليدية التي يوشك "الانقلاب الاستراتيجي" الذي تنفتح صفحاته الآن على وضع حد لها، لتظل أولوية "الصراع" العربي – الإسرائيلي طاغية على كل "نزاع" عداها، سواء كان نزاعا عربيا – عربيا أم نزاعا عربيا – إقليميا، كما ينبغي أن تظل هذه الأولوية.
لكن يظل هناك أيضا تحفظان مشروعان على هذا الانقلاب الاستراتيجي التاريخي. أولهما أن أي "تضامن إقليمي" لا يمكنه أن يكون "بديلا" للتضامن العربي، بل مكملا له، لأن الصراع الأولوية كان وسوف يظل صراعا عربيا إسرائيليا في الأساس، ولآن التضامن العربي المفقود لأسباب موضوعية الآن يظل شرطا مسبقا لا غنى عنه لحسم هذا الصراع لمصلحة العرب، سلما أو حربا، ولأن هذا التضامن لا يمكنه أن يظل مفقودا إلى الأبد لأن دول التجزئة العربية ستدرك إن عاجلا أو آجلا بأن خلاصها قطريا مرهون بتضامنها قوميا وبأن البحث عن خلاص كهذا في تحالفات خارجية منفردة حتى لو كانت مع القوة الأميركية الأعظم حاليا في العالم قد تفرضه ظروف مؤقتة قاهرة، مثله مثل صلحها مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، لكنه لن يكون أبدا ضامنا لأمنها واستقرارها في الأمد الطويل، ولأن دول الجوار الإقليمي نفسها غير معنية مباشرة بهذا الصراع وقد تلتقي مصالحها مع استمراره أو قد تتقاطع أجنداتها مع الأجندة الإسرائيلية في معارضة تبلور تضامن عربي حقيقي أو قد تملي عليها علاقاتها الدولية استحقاقات تتضارب مع انكفائها الإقليمي الحالي، إلى غير ذلك من الأسباب.
أما التحفظ الثاني فيتمثل في تأجيل فعلي لحل خلافات عربية مع دول الجوار الإقليمي، مثل سلخ لواء الاسكندرون عن الوطن السوري الأم وضمه إلى تركيا، وضم الأحواز العربية إلى إيران، والاحتلال الإيراني لجزر الإمارات العربية الثلاث، والشراكة الإيرانية في الاحتلال الأميركي للعراق، إلخ، لمصلحة الاستقواء العربي بدول الجوار في الصراع العربي الإسرائيلي، مما يهدد بأن يطوي النسيان هذه الحقوق العربية نتيجة لطول أمد الصراع العربي الإسرائيلي قبل أن يتفرغ العرب لحل هذه النزاعات الحدودية مع جيرانهم، وهي نزاعات موروثة من أيام الاستعمار حقا، غير أنها تنطوي على حقوق عربية في أجزاء مقتطعة تعسفا وقهرا من الوطن العربي لا يمكن التنازل عنها، لكن محاولة التذرع بها لإجهاض انقلاب استراتيجي تاريخي في العلاقات العربية مع دول الجوار الإقليمي تندرج في إطار تغليب الثانوي على الرئيسي، ومنح الأولوية "للنزاع" الحدودي على "الصراع" الوجودي.
وهكذا مثلما ينتقد المنتقدون الشراكة التجارية المتطورة بين الإمارات وبين إيران بسبب الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث، نجد اليوم من سارعوا إلى انتقاد اتفاق الشراكة الاسراتيجية السوري التركي في نهاية الأسبوع الماضي. ومثلما استغل المعارضون لنظام الحكم في سوريا العلاقات السورية – الإيرانية الوثيقة بعد الثورة الإسلامية عام 1979 للطعن في "عروبة" هذا النظام -- الذي لم يبق غيره بين منظومة جامعة الدول العربية من يتبنى القومية العربية كأيديولوجيا رسمية وشعبية بعد الانقلاب على الناصرية في مصر إثر العدوان فالاحتلال الإسرائيلي عام 1967، و"اجتثاث" البعث فكرا وتنظيما بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، واستبدال الدعوة إلى الوحدة العربية بالدعوة إلى الوحدة الإفريقية في ليبيا – سارع هؤلاء المعارضون أنفسهم إلى استغلال مماثل للاتفاق على إنشاء مجلس للتعاون الاستراتيجي السوري – التركي قبل أن يجف حبر توقيعه.
ولا بد أولا من وضع هذا الجدل في إطاره الصحيح وفي سياقه السياسي القائم فعلا. والإطار الأول الذي لا يجهله بالتأكيد حتى المعارضين للنظام السوري هو أن علاقات سوريا الخارجية وسياساتها الداخلية وحراكها الدبلوماسي تحكمه أولوية الصراع العربي الإسرائيلي بعامة وأولوية تحرير هضبة الجولان السورية الاستراتيجية المحتلة بخاصة، وهي أولوية تطغى على كل ما عداها، واستحقاقاتها هي التي تحدد تلك العلاقات والسياسات والحراك. ومن هذا المنظور السوري فإن الحرب العراقية الإيرانية ثم حرب الكويت والآن الاحتلال الأميركي للعراق والمحاولات الأميركية الجاهدة لإنشاء جبهة عربية – إسرائيلية ضد إيران ما هي إلا انحراف عن الصراع الأساسي وهدر للطاقات القومية في معارك جانبية وثانوية.
ومن هذا المنظور السوري فإن الوضع العربي الراهن المنقسم على نفسه والضعيف حد العجز عن حد أدنى من التضامن القومي والعمل العربي المشترك والذي تمخض عن زج العرب في سلسلة من المعارك الجانبية والثانوية لا تكاد حلقة منها تنفك حتى تحاصرهم حلقة جديدة منها هو وضع حاصر دمشق بين خيارين، خيار البحث عن تضامن قومي مفقود لا أمل في إحيائه في أي مدى منظور وخيار البحث عن بدائل إقليمية أو دولية ممكنة ومتوفرة تعوض عنه. وإذا كان الإتحاد السوفياتي السابق قد وفر سابقا مثل هذا البديل فإن البديل الدولي الأوروبي له بعد انهياره قد أثبت أنه ما زال عاجزا عن الاستقلال عن تبعيته للقائد الأميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بينما البديل الصيني يبحث عن الشراكة مع الولايات المتحدة أكثر مما يسعى إلى الصراع معها، لذلك كان البحث عن خيار إقليمي للتضامن العربي المفقود هو المتاح الوحيد الباقي أمام دمشق.
وإذا كان هؤلاء المعارضون، غير "القوميين" في غالبيتهم الساحقة، يستغلون بطريقة انتهازية ما يحذر منه "القومييون العرب" أنفسهم بكل أطيافهم من نتائج سلبية لعلاقات سوريا الإيرانية والتركية على سوريا نفسها قبل غيرها من العرب، وهي تحذيرات ربما لا يوجد بين العرب من هو أكثر إدراكا لها وتأثرا مباشرا بها أكثر من سوريا نفسها لأنها تعنيها مباشرة قبل كل الآخرين، مثل النتائج العكسية للنفوذ الإيراني المتنامي في العراق الذي يستظل بالاحتلال الأميركي على مستقبل العراق وهويته الوطنية ودوره القومي الحاسم في كل قضايا الصراع العربي المصيرية ومثل قضية لواء الإسكنرون الذي سلخته فرنسا عن الوطن السوري الأم وضمته إلى تركيا عام 1938، فإن مسارعة هؤلاء المعارضين، سواء كانوا أنظمة عربية أم كانوا امتدادات لهذه الأنظمة وحلفائها الدوليين في داخل سوريا نفسها، إلى تبني هذه التحذيرات للطعن مجددا في عروبة سوريا إنما تندرج في باب الحق الذي يراد به باطل لثلاثة أسباب رئيسية.
أولها وأهمها أن "الشقيق العربي" السوري قد اضطر للبحث عن ظهير إقليمي غير عربي بعد أن فقد الأمل في ظهير عربي، ولا يستطيع أي مراقب محايد ألا يرى وجاهة في الحجة السورية التي ترى بأن تغليب القطري على القومي قد دفع إلى معاهدات عربية منفردة للصلح مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وإلى اصطفاف عربي تحالفي مع الحليف الأميركي لهذه الدولة ، ومنح هذه المعاهدات والتحالفات أولوية على التضامن القومي والدفاع العربي المشترك. وثانيها أن "عروبة" المعارضين أنفسهم مطعون فيها بالرغم من الحجج "القومية" التي يسوقونها في انتقادهم للتوجه السوري الإقليمي. وثالثها أن الدوافع السياسية الطائفية والعرقية والليبرالية ذات الصلات الخارجية تطغى على المعارضة لهذا التوجه من الداخل السوري، ليظل الصوت القومي محاصرا في موقف الدفاع عن الوجود في النظام العربي وفي المعارضة لهذا النظام على حد سواء.