أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
طريق أميركي لا نهاية له!!

بقلم : نقولا ناصر* ... 07.09.2009

(**لا يلوح في الأفق أي دليل ملموس على حدوث أي تغيير نوعي في الموقفين الأميركي والفلسطيني يدعو إلى التفاؤل بأن طريق الحل الأميركي الذي لا نهاية له يمكن أن يقود إلى أي انفراج في الأمد المنظور)
إذا كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد وضعت كل بيضها السياسي في السلة الأميركية لترتهن نفسها لواشنطن كوسيط وحيد أوحد في عملية سلام ممتدة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، فإن الطرف الآخر في الانقسام الوطني الفلسطيني الراهن يترك بابه مواربا أمام خيار فتح قنوات بين حماس وبين الإدارة الأميركية الجديدة التي تشير كل الدلائل إلى أنها تسير على نهج الإدارات السابقة المتعاقبة من الناحية الاستراتيجية ولا تختلف عنها إلا في مقاربتها المخملية سعيا وراء الأهداف نفسها.
فرئيس وزراء الحكومة الفلسطينية في غزة اسماعيل هنية، على سبيل المثال، لم يكن دقيقا في الأسبوع الماضي عندما قال إن "الإدارة السابقة كانت وصمة عار"، لأن إدارة جورج دبليو. بوش تلك -- التي كانت أول إدارة اميركية تتبنى رسميا "رؤية حل الدولتين" والتي ارتكبت "العار" حقا بغزوها ثم احتلالها للعراق -- لم تتميز فلسطينيا بعار اقتصر عليها فقط عندما عززت تحالفها الاستراتيجي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وفشلت في الوفاء بوعودها المعلنة للشعب الفلسطيني، ووفرت مظلة سياسية للاحتلال الإسرائيلي المتواصل منذ عام 1967، ولمواصلة الاستعمار الاستيطاني اليهودي للأراضي الفلسطينية، وأقامت درعا دبلوماسية منيعة لمنع المجتمع العالمي من إنشاء محكمة دولية تحقق في الشراكة الإسرائيلية – الأميركية "المعلنة" في تصفية الرمز الوطني للشعب الفلسطيني ياسر عرفات بينما المحاكم الدولية تتكاثر كالفطر لهذا السبب أو ذاك، إذ لا يمكن تبرئة كل الإدارات السابقة من هذا العار الذي مارسته جميعها، بينما إدارة باراك أوباما اللاحقة لها على المحك الآن لكي تثبت أنها مختلفة.
ولم يكن هنية دقيقا عندما قال إن إدارة أوباما الجديدة "تتحدث الآن بلغة جديدة وخطاب جديد"، فلغتها هي نفسها لغة "رؤية حل الدولتين"، وخطابها هو خطاب "خريطة الطريق" إياها، وخطة أوباما المرتقبة هي ذاتها خطة سلفه بوش، لا بل إن مسؤولي هذه الإدارة الجديدة يؤكدون أن خطة أوباما ما هي إلا "مسار جديد" (عربي جماعي) يحاول الوفاء بوعود الخطة القديمة بدل المسار الثنائي الفلسطيني الإسرائيلي القديم الذي فشل في تحقيقها.
لكن هنية لم يكن دقيقا بخاصة عندما قال إن الشعب الفلسطيني سيحكم على "أفعال" إدارة أوباما وليس على "أقوالها" متجاهلا أنها تردد كالببغاء أقوال إدارة بوش السابقة وبالتالي فإن الأفعال التي تخطط لها هي نفسها التي اعتقد سلفه بوش بان الطريق الفلسطيني كان قد أصبح ممهدا لها بعد جريمة تصفية عرفات قبل أن يكتشف فجأة ظهور "عقبة" فلسطينية جديدة تحول دونها تتمثل في المقاومة التي تقودها حركة حماس والتي بدأ بوش شراكة اميركية –إسرائيلية جديدة ل"إزالتها" فنجح في محاصرتها داخل قطاع غزة لكنه لم يفرح ب"تتويج" نهاية ولايته الثانية بنهاية عسكرية لها تمهد الطريق لخلفه لكي يواصل مسيرة أقواله وأفعاله نفسها.
ولم يكن هنية دقيقا بخاصة كذلك عندما قال إنه "لن يكتب لهذه الإدارة النجاح" في حال استمرت تتعامل "مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منطلق الرؤية الصهيونية"، فتقاطع المصالع الإسرائيلية الأميركية لم يعد يخف حقيقة أن الإدارات الأميركية المتعاقبة إنما تتعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي وفق رؤية أميركية إقليمية خالصة تتعاطى مع هذا الصراع سلبا أو إيجابا بقدر ما يخدم ذلك استراتيجيتها الإقليمية بعامة، وفي الوقت الراهن بقدر ما يخدم حروبها الثلاثة في العراق وأفغانستان وباكستان، والحرب في البلد الأخير هي براءة اختراع سجلها التاريخ باسم أوباما وإدارته.
فمنذ طرح وزير الخارجية الأميركي الأسبق وليم روجرز أول "خطة" أميركية لحل الصراع العربي الإسرائيلي بعد العدوان الإسرائيلي عام 1967 الذي قاد إلى احتلال أراض مصرية وأردنية وسورية ولبنانية وفلسطينية كانت "الخطط" الأميركية لحل هذا الصراع تستند إلى المرتكزات نفسها، فهي أولا استهدفت ترتيب الأوضاع في الوطن العربي ومحيطه الشرق أوسطي لخدمة الاستراتيجية الأميركية الإقليمية.
واستهدفت ثانيا انتزاع اعتراف عربي وفلسطيني بدولة المشروع الصهيوني في فلسطين، واستهدفت ثالثا فرض هذه الدولة كجزء لا يتجزأ من أي نظام إقليمي، وارتكزت رابعا على مقاربة أمنية عمادها ضمان أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي، وارتكزت خامسا على حلول خارج إطار الأمم المتحدة وشرعيتها وقراراتها الخاصة بالصراع، وارتكزت سادسا على اعتماد عام 1967 لا عام النكبة في سنة 1948 كسنة الأساس لبدء الصراع وبالتالي كأساس لحل "هذا" الصراع ووقع العرب في هذا الفخ الدبلوماسي الأميركي منذ رفعوا شعار "إزالة آثار العدوان"، وارتكزت بالتالي على حلول للصراع "تؤجل" أي تفاوض حول حل أي من القضايا الناجمة عن نكبة عام 1948 وفي رأسها قضية اللاجئين الفلسطينيين تمهيدا للتوقيع الفلسطيني والعربي على "إنهاء" الصراع وبالتالي على تصفية تلك القضايا وفي رأسها قضية اللاجئين، وارتكزت سابعا على حصر أي وساطة دولية لحل الصراع بالوساطة الأميركية وإلحاق أي جهود وساطة أخرى بها، وارتكزت ثامنا على التوصل إلى حلول عبر مفاوضات "ثنائية" فقط.
وهي ارتكزت تاسعا على إبقاء الأراضي العربية المحتلة عام 1967 رهينة لدى دولة الاحتلال لمبادلتها بمعاهدات صلح ثنائية تم إبرام بعضها فعلا ويجري التخطيط لإبرام مثيلات لها بالشروط الإسرائيلية الأميركية مما حول الولايات المتحدة عمليا إلى شريك في الاحتلال فأطال أمد هذا الاحتلال ووفر له الوقت الكافي للتحول من مجرد احتلال عسكري إلى استعمار استيطاني تحول بدوره إلى مكاسب إقليمية حازتها دولة المشروع الصهيوني بالقوة المسلحة في انتهاك فاضح لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي لتتحول هذه المكاسب الإقليمية بدورها، وبخاصة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إما إلى أداة ضغط تفاوضية بيد الاحتلال أو إلى حقائق مادية على الأرض يطلب حاليا من المفاوض الفلسطيني الاعتراف بها كأمر واقع تمهيدا لضمها إلى دولة الاحتلال أو وفي أحسن الأحوال مبادلة الاستراتيجي منها بأرض تساويها في المساحة لا توجد أي قيمة استراتيجية لها، وما زال هذا الطريق الأميركي مفتوحا إلى ما لا نهاية.
ومثلما طرحت "خطة روجرز" في إطار الحرب الباردة بين القطبين العالميين الأميركي والسوفياتي قبل انهيار الاتحاد السوفياتي السابق لخدمة الاستراتيجية الأميركية في تلك الحرب، كذلك انعقد مؤتمر مدريد عام 1991 غداة الحرب الأميركية الأولى على العراق في تلك السنة نفسها، ومثل ذلك طرحت الإدارة الأميركية "خطة خريطة الطريق" لنزع فتيل أي انفجار للصراع العربي الإسرائيلي عشية الغزو الأميركي عام 2003 الذي كان رأس الحربة العسكرية للحرب الأميركية الثانية على العراق المستمرة حتى الآن، وجاءت "رؤية بوش لحل الدولتين" في السياق نفسه، وهي الرؤية التي استفاقت متأخرة على مبادرة السلام العربية لعام 2002 التي كانت قد حثت عليها في الأصل قبل أن تهملها لمدة ست سنوات حتى اكتشفت إدارة بوش في اواخر ولايتها الثانية أن غزو العراق وأفغانستان لم يكن نزهة وأن التعاطي مع المبادرة بعد إفراغها من مضمونها الأصلي أصبح ضرورة للاستقواء بالدعم العربي في العراق وافغانستان وفي مواجهة إيران.
وتأتي "خطة أوباما" الآن في إطار استراتيجي إقليمي مماثل عشية توسيع الحرب الأفغانية إلى باكستان وتصاعد المواجهة مع إيران في العراق وحول برنامجها النووي على حد سواء. ولم يعد يوجد أي شك لدى أي مبتدئ في التاريخ الأميركي الحديث للتعاطي مع الصراع العربي الإسرائيلي في أن الخطط الأميركية التي تطرح بشان هذا الصراع إنما تستهدف إدارته لا حله وأنها جميعها مجرد خطط جديدة لإحياء خطط قديمة لضمان سير العرب وفي مقدمتهم الفلسطينيون في هذا الطريق الأميركي الذي لا نهاية له.
وقد آن الأوان لوقف الدوران العربي في هذه الحلقة الأميركية المفرغة، لكن من اختارت الإدارة الأميركية بصورة انتقائية أن "تعترف" بشرعيتهم كمفاوض يمثل الشعب الفلسطيني ما زالوا يوفرون قميص عثمان فلسطيني للعجز العربي عن الخروج من هذه الدوامة، وما زال المفاوض الفلسطيني يقيد نفسه طوعا وخلافا لكل منطق وحكمة بالمزيد من السلاسل التي تجعل انفكاكه عن القطار الأميركي الذي بالكاد يجرجر عجلاته على سكة هذا الطريق الذي لا محطة نهائية له، ليسوغ تراجعاته المتكررة بعجزه عن مقاومة الضغوط الدولية التي تحاصره بحيث لا تترك له أي خيار آخر غير التراجع وبالعجز العربي الذي يطيل أمده بتوفير الغطاء الفلسطيني له، غير أن المفاوض الفلسطيني لا يريد أن يعترف بأن "عجزه" عن مقاومة هذه الضغوط جميعها ناجم أصلا عن عامل ذاتي لا خارجي، لأنه عندما اختار أن يرتهن نفسه لخيار "التفاوض فقط" واختار أن يرتهن نفسه لل"الوسيط الأميركي فقط"، ثم اختار أن يعفي الدول العربية الشقيقة من أي مسؤوليات قومية تجاه القضية الفلسطينية بفرض خياراته و"اتفاقياته الموقعة" عليها كأمر واقع لا بديل أمامها غير التعاطي معها سوى الدخول في مواجهة مع أصحابها من الفلسطينيين، لتسوغ بدورها عجزها ب"قميص عثمان" الفلسطيني هذا فتكرر القول إنها لا يمكن أن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين أنفسهم .. إن المفاوض الفلسطيني عندما "اختار" ذلك إنما كان يحكم على نفسه بالعجز ويتخلى طوعا عن أوراق قوة له، وهنا مكمن السر في تحول التراجع إلى نمط سلوك سياسي لأنه لم يترك للمفاوض أي خيارات أخرى يتراجع إليها سوى التراجع نفسه، وهو نمط جعل هذا المفاوض يفقد صدقيته لدى شعبه ولدى دولة الاحتلال وحليفها الأميركي على حد سواء.
فعلى سبيل المثال لم يصدر عن الرئاسة الفلسطينية في رام الله حتى الآن ما ينفي نفيا جازما وقاطعا التصريحات الرسمية الأميركية والإسرائيلية عن اجتماع قمة يجمع بين محمود عباس وبين رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو برعاية الرئيس الأميركي أوباما في نيويورك أواخر الشهر الجاري، لا بل إن كل الدلائل تشير إلى أن مفاوض منظمة التحرير الفلسطينية الذي أدمن التفاوض بقدر ما أدمن التراجع عن مواقفه المعلنة لن يحترم مجددا الشروط المسبقة التي أعلنها هو نفسه للموافقة على عقد هذه القمة كمقدمة لاستئناف فصل جديد في مسرح العبث السياسي المسمى "عملية السلام".
وإذا ما انعقدت هذه القمة فإنها ستؤكد ما يذهب إليه كثير من المحللين بأن المشروع الذي أعلنه رئيس وزراء سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في رام الله سلام فياض لاستكمال بناء مؤسسة حكم لدولة فلسطينية بلا أرض خلال عامين إنما كان مشروعا أميركيا يتزامن سقفه الزمني مع السقف الزمني الذي تقول تقارير إدارة أوباما إن "خطة أوباما" قد حددته لاستكمال المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية على "حل نهائي"، بقدر ما يؤكد الاجتماع بين وزير الاقتصاد الفلسطيني باسم خوري ووزير التنمية الإقليمية الإسرائيلي سيلفان شالوم أوائل الشهر الجاري أن المفاوض الفلسطيني قد بدأ يتعاطى فعلا، في تراجع جديد عن مواقفه المعلنة، مع المقاربة الاقتصادية ل"رؤية نتنياهو" لعملية السلام الثنائية، بينما يؤكد الضغط الأميركي على المفاوض الفلسطيني للموافقة على قمة عباس – نتنياهو بحجة أن موافقة الأخير على تجميد "مؤقت" للاستيطان (لمدة ستة أشهر دون أي ضمانات بعدم استئنافه) وعلى تجميد "جزئي" له (لا يشمل القدس) إنما يلبي الشرط الفلسطيني المسبق المعلن لاستئناف عملية التفاوض -- أن المفاوض الفلسطيني والوسيط الأميركي معا مصران على مواصلة السير في الطريق الأميركي الذي لا نهاية له.
وإذا ما انعقدت قمة عباس – نتنياهو فإنها سوف تتزامن مع الإضراب العام والشامل الذي قررته بالإجماع لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في دولة الاحتلال الإسرائيلي يوم الأربعاء الماضي، وإذا لم يكن هذا الإضراب احتجاجا على القمة المرتقبة فإن دلالات تنظيمه بهدف تخليد الذكرى السنوية التاسعة لانتفاضة الأقصى لا يمكن إلا أن تكون أيضا احتجاجا على القمة لأن التغيير الأميركي – الإسرائيلي للنظام السياسي الفلسطيني من نظام عرفات إلى نظام عباس كان يستهدف أصلا شطب أي استثمار سياسي لتضحيات انتفاضة الأقصى من جدول أعمال أي مفاوضات مستانفة ولأن تغيير النظام السياسي الفلسطيني لا يمكن تفسيره إلا بكونه انقلابا عليها، ولأن هذا الإضراب منظم أصلا كاحتجاج على نتنياهو وحكومته وسياساتهما وبالتالي فإنه لا يمكن إلا أن يكون احتجاجا أيضا على أي قمة "فلسطينية" معه واحتجاجا على ما كتب عدنان بكرية -- الذي شارك في صنع قرار لجنة المتابعة العليا – بأنه تجاهل المفاوض العربي والفلسطيني ل"الرقم المجهول في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي"، لكن بكرية الذي طالب ب"تدويل وتعريب قضيتنا لأنها .. جزء لا يتجزأ من عناصر الصراع" ولأن إسرائيل "بدأت تقحمنا" في "دائرة الحلول والمقايضات والتبادل السكاني كمقدمة للترحيل" قد فاته أن يطالب أولا ب"فلسطنة" قضية عرب فلسطين الأسرى في إسرائيل منذ عام 1948.
وإذا كان هذا الإجماع الفلسطيني على عدم استعداء القوة العالمية الأميركية العظمى يمثل سياسة واقعية حكيمة من حيث المبدأ فإنه من الناحية العملية -- في إطار تجربة الاستجابة الفلسطينية الطويلة لكل ما صدر عن الولايات المتحدة من مبادرات وخطط لحل الصراع دون أن يتمخض عن ذلك لا حل للصراع ولا أي تأثير على ازدواجية المعايير الأميركية بين طرفيه ولا أي مؤشر إلى أن إيجابية الموقف الفلسطيني من الولايات المتحدة ومبادراتها كان له أي تأثير في تفريقها بين حماية دولة الاحتلال منذ قيامها قبل أكثر من ستين عاما وبين حماية الاحتلال نفسه -- قد تحول إلى انتحار ذاتي قاد فعلا إلى انقسام حركة التحرر الفلسطيني وفرق صفوفها وشوش أهدافها الاستراتيجية ليتآكل مركزها السياسي حد تشكيك العدو والصديق معا في أهلية قياداتها كممثلة لشعبها، دون أن يلوح في الأفق حتى الآن أي دليل ملموس على توقع حدوث أي تغيير نوعي في الموقفين الأميركي والفلسطيني على حد سواء يدعو إلى التفاؤل بأن هذا الطريق الأميركي الذي لا نهاية له يمكن أن يقود إلى أي انفراج في الأمد المنظور.

* كاتب عربي من فلسطين