بقلم : د. عدنان بكرية * ... 01.10.2009
في مثل هذا اليوم وقبل تسعة أعوام.. افتتحنا الشهر بانتفاضة الغضب حيث تفجر الغضب وسال الدم هنا في المثلث والنقب والجليل ليمتزج مع الدم النازف في الضفة وغزة .. لم تستطع كل آلياتهم الحربية كسر إرادة شعب يريد أن يعبر عن غضبه ... داهموا مدننا وقرانا بجنودهم المدججين بالسلاح لكنهم هُزموا .. نعم هُزموا أمام إرادة المقاومة المتَوقدة فينا .. في ذالك اليوم سقط ثلاثة عشر شهيدا رّووا بدمائهم تراب الوطن.. وسقط الطفل الشهيد ابن السادسة "محمد الدُرة" في غزة فلأجلهم جميعا سنصون الرسالة ونحفظ الأمانة ونلقن أطفالنا جيل وراء جيل لا تساوم "قاومت فقاوم "
***
كان يلتصق بي وكنت أحاول إبعاده عن الرصاص، لكن رصاصة أصابته في ساقه، فصرخت بأعلى صوتي وبكيت، ولكن لا فائدة فحاول تهدئتي، وكانت آخر كلماته لي: " لا تخف يا بابا.. إجت رصاصه برجلي بيهمش.. المهم خبي حالك أنت".!!
هذا ما رواه والد الشهيد "محمد الدرة" عن اللحظات الأخيرة من استشهاد ابنه .. سقط بحضن والده وهو يحاول الاحتماء من رصاصهم ومن جحيم أحقادهم .
"محمد...يُعَشِّشُ في حِضن والده طائراً خائفاً مِنْ جحيم السماء...احمني يا أبي مِنْ الطَيران إلى فوق! إنَّ جناحي صغير على الريحِ... والضوء أسْوَدْ...
مُحمَّدْ، يريدُ الرجوعَ إلى البيت، مِنْ دون دَرَّاجة..أو قميص جديد… يريدُ الذهابَ إلى المقعد المدرسيِّ... الى دَفتر الصَرْف والنَحْو... خُذني الى بَيْتنا، يا أبي، كي أُعدَّ دُرُوسي وأكملَ عمري رُوَيْداً رويداً... على شاطئ البحر، تحتَ النخيلِ ولا شيء أبْعدَ، لا شيء أبعَدْ"
.. ترى فماذا نقول نحن ؟! ماذا نقول للشهيد (محمد الدرة) ورفاقه في هذا اليوم حيث تتحطم أسطورتنا تحت فضاء صراخهم وعظمتهم وتنكشف عوراتنا على الملأ ونكتشف ذاتنا المبتورة... لم يعد هناك ما نخفيه ..فلقد تعرينا أمام العالم .. عرايا نحن في هذا الزمان... نحن عشاق التراجع والانشطار والانكسار .. فلم نعد عشاقا للنهار ! آثرنا الظلمة وأدمنا الهزيمة والاندحار !
قتلناك وهزمناك يا محمد... هزمنا حلمك الجميل بقذائف أحقادنا وعلى وقع هزائمنا ندق طبول النصر.. فأي نصر هذا الذي يبنى على ركام أحلامنا وحطام ثوابتنا وشظايا أيامنا !
اعلم انك تتساءل في فردوسك المطل على فضيحتنا يا محمد:
ما الذي جعل الفلسطيني يقتل أخاه وكلاهما تحت الاحتلال، وكلاهما ينتمي لفصيل يفترض أنه يقاوم الاحتلال؟ ما الذي جعل الفلسطيني يستبدل أغنية ((طل سلاحي من جراحي)) ... ((أنا يا أخي آمنت بالشعب المضيع والمكبل)) (( طالعلك يا عدوي طالع ))؟... ولا يهم المقاتل حين يضحي كي يرى لحظة الانتصار وما الذي جعل الفدائي يحطم محراب المقاومة ؟!
ومن حقك أن تسأل من فردوسك المطل على فضيحتنا يا محمد:
ما الذي جعل الفلسطيني يتفنن بتعذيب ذاته ويمتهن الانتحار ؟!هل هي لعنة من عند الله أم من عندنا ؟ وليس من حقك أن تحلم يا محمد.. أما زلت تحلم ... بأن الأرض قادرة على التفجر وبأن الشوارع قادرة على احتواء ظلك الماثل أمامنا كنور الشمس ؟أما زلت تحلم بالزنابق والطيور وبأن دوريا سيحملك على جناحية يطوف بين رماد القدس ومِِزقَة التاريخ في أطلال صور ؟!
أما زلت تحلم بالطيران إلى فوق والتحليق في فضاء حريتك... لم يعد لك حرية تدافع عنها لقد صادروها أمراء الفصائل !! وأضحيت بلا جدار تتكئ عليه ؟ أما زلت تؤمن يا محمد بأبجديات المقاومة والانتفاضة الزاحفة والشعارات الزائفة؟!!
أما زلت تؤمن بقصائد الرثاء والحب والغضب والثورة .. كم كذبنا حين قلنا: دم أطفالنا أمانة بأعناقنا فلا مساومة.. فلا نحن صنا الأمانة ولا نحن حفظنا آيات المقاومة !!
من حقك أن تتساءل من فردوسك المطل على فضيحتنا :
كما تساءل حارس نار ثورتك وحامل شعلة دمك ومزخرف أبجديات موتك محمود درويش:
))هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا... لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظن؟ وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟ كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء!
أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك! أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً مع مَنْ يحبّونَنا - تلك هي دُونيّة المُتعالي، وغطرسة الوضيع!
أيها الماضي! لا تغيِّرنا... كلما ابتعدنا عنك! أيها المستقبل: لا تسألنا: مَنْ أنتم؟ وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف
اَيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوى عابري سبيلٍ ثقلاءِ الظل((
****
ومن حقك أن تسأل من فردوسك المطل على فضيحتنا !!
ونحن نجيبك .. ماذا نريد بعد؟ لقد تحررنا من الاحتلال فصار لنا بدل الدولة دولتان!! وبدل العلم علمان وبدل الجامعة جامعتان!! وبدل السجن سجنان!!وبدل السجّان سجّانان ... نضالنا لم يذهب سدى وبفضل الدماء الغزيرة التي سالت في في كل مكان .. على أعتاب بيوتنا وعلى أعتاب العواصم... تحررنا من بعضنا البعض بفضل الدماء التي روت ارض العرب .. تحرر منا العرب !!
صار لنا دولتان وبدل العلم علمان ،لكننا لم ننجح في تجزئة الحب لنقول صار لنا حبان وعشقان وحبيبتان ... نحن لا نحب مرتين.. لا نحب بوجهين.. أنت أنت يا بلادي غير قابلة للتجزئة والانشطار .
أنت التي مرّ عليك الغزاة ولم ينالوا منك فولوا هاربين...نحن الذين نلنا منك... من شدة حبنا لك قتلناك لئلا ينالوا منك الآخرون ... الفضائح تلاحقنا ..خطفتنا الفضائح من ذاتنا وخطفت ضمائرنا خطفت أنظارنا فصرنا لا نرى وجوهنا إلا في المرايا المتكسرة .
"مهما نظرتَ في عينيّ.. فلن تجد نظرتي هناك. خَطَفَتْها فضيحة! قلبي ليس لي... ولا لأحد. لقد استقلَّ عني، دون أن يصبح حجراً... هل يعرفُ مَنْ يهتفُ على جثة ضحيّته - أخيه: الله أكبر أنه كافر "
ومن حقك أن تسأل من فردوسك المطل على فضيحتنا يا محمد !!
هل هان دمي ودم رفاقي عليكم ؟! وأنت الطير الذبيح تجوب كل المعاقل والعواصم تنشد للغد الآتي ولقبضتك اليمنى تحتضن الحجارة وتعلو فوق قامات الجنود.
فاضرب يا محمد... إضرب حجارتك نصفها على أعدائنا ونصفها الآخر على زجاج الأنظمة وارسم بخطك الجميل أن دولة العشّاق قادمة .
فيا محمد ونحن السائرين على خطاك من أطراف غزة إلى أقاصي الجليل... أنت فينا ونحن فيك نتجدد ... وعلى وقع خطاك نمشي ونردد ما رواه أجدادنا عن البلد الحزين..عن قامة طفل
عن -
)) عاشق يأتي من الحرب إلى يوم الزفاف يرتدي بدلته الأولى ويدخل حلبة الرقص حصانا من حماس وقرنفل... وعلى حبل الزغاريد يلاقى فاطمه وتغنّي لهما كل أشجار المنافي ومناديل الحداد الناعمه .
وقضيت الليلة الأولى على قرميد حيفا ...يا محمّد !
يا أمير العاشقين... يا محمّد !
وتزوجت الدوالي وسياج الياسمين ...يا محمّد !
وتزوّجت السلالم يا محمّد ! وتقاوم يا محمّد ! وتزوّجت البلاد يا محمّد ! يا محمّد((
فاصعد الى سِدرة المنتهى يا محمد